القانون التجاري المغربي: “من نظام الإفلاس إلى نظام صعوبات المقاولة”
بقلم: الحسن الفرياضي – المركز الديمقراطي العربي
ساير المشرع المغربي التشريع الفرنسي بإستبدال نظام الإفلاس بنظام صعوبات المقاولة،وذلك بهدف تشجيع المقاولة،واستمرار نشاطها، وتجاوز سلبيات نظام الإفلاس الذي يغلب عليه الطابع التصفوي و العقابي.
ولعل من أسباب تأثر القانون المغربي بالقانون الفرنسي، ذلك الارتباط التاريخي المتمثل أساسا في بسط فرنسا حمايتها على المغرب، لكن قبل ذلك كان نظام الإفلاس الذي وضع أسسه الفقه الإسلامي وخاصة الفقه المالكي، الذي يعتبر مذهب المغاربة الرسمي، هو: الذي يطبق في المغرب إلى أن تم فرض الحماية عليه، على إثر معاهدة فاس في 12 غشت 1912 م، حيث كان من نتائجها دخول المغرب وبالتدريج عهد تدوين القوانين على الشكل السائد في غرب أوروبا عموما، وفي فرنسا على وجه الخصوص، مع الحفاظ على المقومات العقائدية و الاجتهادية للبلاد. فهل كان نظام الإفلاس في المغرب في أزمة حتى إستبدل بنظام صعوبات المقاولة؟
هذا هو السؤال الرئيسي في هذا المقال، لكن لا يمكن في إعتقادنا الإجابة عليه، دون طرح أسئلة أخرى جزئية متعلقة بهذا الموضوع أسئلة من قبيل:ما المقصود بنظام صعوبات المقاولة؟بماذا يتميز هذا النظام عن نظام الإفلاس؟ماهي أهداف المشرع المغربي من تبني هذا النظام؟
أولا:مدلول نظام صعوبات المقاولة واهم مميزاته.
لم يعرف الفقه الإسلامي مفهوم صعوبات المقاولة لأنه مفهوم غربي معاصر، ظهر في التشريع الفرنسي سنة 1985م، بعنوان:(التقويم أو التصحيح و التصفية القضائية للمقاولة).
حيث نلاحظ من هذا العنوان حذف كلمة الإفلاس، مما يعني إلغائه لفظا و جوهرا، على الرغم أن المشرع الفرنسي لم يأخذ صراحة بنظام صعوبات المقاولة، وذلك مراعة للإشكال القائم بين الوقاية من الصعوبات و بين معالجة صعوبات المقاولة.
وكذلك من الأسباب التي جعلت الفقه الإسلامي لم يضع تعريفا لهذا المفهوم أي:(صعوبات المقاولة)، أن الشركات المعاصرة التي تتمتع بشخصية إعتبارية لم تكن معروفة في ذلك الوقت.غير أن بعض الفقهاء المعاصرين حاولوا وضع تعريفالهذا المفهوم إنطلاقا من المنظور الشرعي، فكانت تعارفهم كلها تدل على أنها:(عجز التاجر، أو الشركة التجارية، أو الحرفي عن مواجهة الخصوم بالأصول القابلة للتصرف، أو إحاطة الدين بمال المدين، أو إستغراق الديون جميع أموال المحكوم عليه، و العجز عن تأديتها من قبله، وليس فقط الديون المستحقة التي تكتفى بها في نظام الإعسار).
وعرفت المادة (560) من مدونة التجارة، صعوبات المقاولة على أنها: (كل شركة تجارية ليس بمقدورها سداد الديون المستحقة عليها عند الحلول بما في ذلك الديون الناجمة عن الإلتزامات المبرمجة في إطار الإتفاق الودي المنصوص عليها في المادة(556))
و يلاحظ على هذا التعريف أنه لا يختلف عن التعريف التقليدي للإفلاس، في حين أن التعريف الحقيقي لنظام صعوبات المقاولة هو:تلك الوقائع التي من شأنها أن تخل بإستمراريةالإستغلال و الإستثمار.
وبهذا المعنى فهي لا تؤطر نزاعا تقليديا بين خصوم، تدفعهم مصالحهم الشخصية إلى طلب حماية قضائية لحقوقهم، بل ترمي إلى إنقاذ المقاولة، وإيجاد السبل الكفيلة لمعالجتها، ومن ثم فإن الغاية من تدخل مختلف الأطراف المعنية في هذه المسطرة لا يعني الوصول إلى حل نزاع، بل المشاركة في تسوية و ضعية المقاولة و إنقاذها.
وتتميز مساطيرالوقاية، والمعالجة من الصعوبات بمزايا، ومنافع جد هامة دون ريب ستكون لها إنعكاسات إيجابية على سائر العاملين في الميدان التجاري خاصة، وعلى الإقتصاد الوطني عامة، وهذه المزايا كثيرة إلا أننا سنركز على ما نعتبره جوهريا، هي التالية:
1-توسيع إختصاص و دور السلطة القضائية بشكل كبير:وذلك لضمان المصداقية والشفافية في الحياة الإقتصادية في عصر تفشت فيه الأمراض و الأزمات التي تقتل الإقتصاد.
– تقوية و تعزيز مركز ودور مراقبي الحسابات:سواء تلك التي تحكم الشركات او تلك التي تتعلق بصعوبة المقاولة.
3- تحسين وضعية العمال: يتبين للباحث في مساطر الوقاية والمعالجة من الصعوبات، أن الصياغة تستعمل تارة عبارة ممثل العمال(المادة548)، وتارة أخرى المأجورين(المادة686).ويعد هذا بمثابة إعتراف بالعنصر البشري كركيزة هامة من ركائز المقاولة إلى جانب رأس المال.
4- إشراك الدائنين في مساطر الوقاية و المعالجة من الصعوبات حماية لمصالحهم: حيث أن مشاركتهم الفعلية في هذه المساطر تحقق نوعا من التوازن بين مصالح المقاول المدين و الدائنين، و يجعل المسطرة تجري من جهة أخرى في ظل نوع المصداقية و الشفافية.
5- تحسين مركز المقاول المدين، والمسيرين من جهة، وتشديد مسؤوليتهم من جهة أخرى:حيث يميز بين المدين، والمسيرين المتصفين بالنزاهة والإستقامة وحسن النية، وبين المدين و المسيرين سيئي النية، أو المخطئين المتلاعبين بمصالح الدائنين والشركاء في الشركة، من أجل تشجيع رجال الأعمال، والمستثمرين، والمقاولين النزهاء، و التشديد على المفسدين و المحتالين و المتلاعبين.
6- عدم جواز الدفع بالسر المهني تجاه الأجهزة القضائية:حتى ولو كانت هناك مقتضيات تشريعية تفرض الإلتتزام به، وذلك أثناء تجميع المعلومات الضرورية لتسوية، وتصحيح وضعية المقاولة.
ثانيا: مساطر الوقاية من صعوبات المقاولة و أهدافها.
لقد عمد المشرع المغربي بموجب مقتضيات مدونة التجارة، إلى الإهتمام بالمقاولة بإعتبارها النواة الأولى لكل تنمية إقتصادية، وإحساسا منه بالدور الذي تلعبه المقاولة في التنمية الإقتصادية تدخل هذا الاخير عن طريق هجر نظام الإفلاس والتصفية القضائية، وتعويضه بنظام صعوبات المقاولة الذي يرتكز على مساطر وقائية وعلاجية أكثر من إرتكازه على تصفية أموال المدين.
وتقوم مساطر الوقاية على جمع أكثر وأوثق المعلومات عن الوضعية الإقتصادية، والمالية والإجتماعية، والمحاسبية للمقاولة، لتشخيص المشاكل، والوقائع التي من شأنها أن تخل باستمرارية الإستغلال أوالنشاط، ولتساعد على نجاح واحدة على الأقل من مساطر الوقاية.سواء كانت الوقاية الداخلية أو الوقاية الخارجية أو التسوية الودية، وتعين على تفادي التوقف عن دفع الديون المستحقة عند الحلول الذي يقود حتما إلى مساطر المعالجة.
وإذا كان الأمر في ظل قانون 1913 م الملغي يقضي بالحكم على المقاولة بالإفلاس، فإن نظام صعوبات المقاولة يرتكز على مساطر الوقاية من الصعوبات ومساطر معالجة الصعوبات.
ويقصد بمساطر الوقاية من صعوبات المقاولة بصفة عامة: مجموع التدابير الحمائية التي تروم مواجهة، واستفحال علامات وبوادرالصعوبات، للحيلولة دون تطورها إلى صعوبات حقيقية تهدد إستمرارية الحياة الإقتصادية للمقاولة.
وتنقسم هذه المساطر في ظل مدونة التجارة المغربية إلى ثلاثة أنواع سنتناولها تباعا على المنوال التالي:
أولا،الوقاية الداخلية:عبارة عن مجموعة من الإجراءات، والتدابير الإدارية،والإقتصادية التي يتم اتخاذها من طرف الأجهزة الداخلية للمقاولة، والتي تتألف من الممثل القانوني للشخص المدين(رئيس المقاولة)، ومراقب الحسابات، والشركاء (المادة545من القانون التجاري)ومجلس الإدارة، ومجلس المراقبة، والجمعية العامة (المادتان:546و547).
ولعل سبب تسميتها بالداخلية كونها تجري بين أجهزة المقاولة الداخلية دون أي تدخل خارجي.
وتعد هذه المسطرة داخلية، وسرية، تجري بين أجهزة الإدارة فحسب، بعيدة عن أعين الدائنين و القضاء، إلا إذا تعلق الأمر بالوقاية الخارجية، مالم يكن هناك نزاع أو خصومة قضائية أو توقف عن دفع الديون المستحقة عند الحلول.
ثانيا،الوقاية الخارجية:سميت هذه المسطرة بالوقاية الخارجية لأن الأطراف الفعالة التي تحركها و تسيرها، وتساهم في تحقيق أهدافها لا تنتمي إلى الأجهزة الداخلية للمقاولة.
وهم:رئيس المحكمة التجارية(المادة 548)، والوكيل الخاص (المادة 549)، والمصالح(المواد 553إلى555)، والدائنون(المادتان 556 و557 من المدونة)إلى جانب رئيس المقاولة المعني الأول بهذه المساطر.
و ترمي مسطرة الوقاية الخارجية إلى فتح حوار أو نقاش سري كذلك، يجري بين رئيس المقاولة ورئيس المحكمة التجارية حول الصعوبات التي من شأنها الإخلال بإستمراريةالإستغلال أو النشاط، والبحث عن الحلول الملائمة، وتقديم الإقتراحات الناجعة، والناجحة تفاديا للتوقف عن سداد الديون المستحقة عند تاريخ الحلولالذي إن حدث يقود حتما إلى مسطرة المعالجة من الصعوبات، إما عن طريق التسوية القضائية، أو التصحيح القضائي، وإما عن طريق التصفية القضائية(المادتان 560و568)، الشيء الذي قد يضرب المقاولة التجارية إن لم يتعاون رئيسها بصدق وإخلاص مع رئيس المحكمة قصد تذليل الصعوبات، وإنقاد المقاولة في حالة الوقاية الخارجية، ومع رئيس المحكمة التجارية أيضا، والدائنين في حالة التسوية الودية.
ثالثا،التسوية القضائية:تعد هذه المسطرة من مساطر الوقاية الخارجية أيضا، لكون وجود الدائنين إلى جانب القضاء، والمصالح من شروط تطبيقها.
و بمعنى آخر أن هذه الأطراف ليست من الأجهزة الداخلية للمقاولة المحركة لمساطر الوقاية الداخلية، ولا ترتبط بمصالحهاأجهزة خارجية، تروم المساهمة فحسب في إنقاذ المقاولة من الصعوبات التي تجتاحها، أو توفر لها الأموال اللازمة لإنجاز مشاريعها بعيدا عن أي مصلحة خاصة عدا المصلحة في حماية المقاولات أداة الإقتصاد و الشغل و الإنتاج و التنمية.
وانطلاقا من مرتكزات و غايات نظام صعوبات المقاولة، فإن مساطر معالجة المقاولة ترمي إلى تحقيق ثلاثة أهداف:
– تمكين المحكمة التجارية من التدخل في أقرب الآجال، حتى تعالج الصعوبات التي تواجهها المقاولة في ظرف لم تتعرض فيه بعد للخطر.
-إسناد دور فعال للمحكمة من أجل تقدير ما إذا كانت صعوبات المقاولة يمكن تداركها أولا، إذ تسند إلى رئيس المحكمة سلطة تقدير ما إذا كان من الممكن القيام بتسوية وضعية المقاولة بواسطة مخطط للإستمرارية، أو بواسطة مخطط للتفويت، أو إتخاذ قرار بالتخلي عن ذلك و النطق بالتصفية القضائية للمقاولة.كل ذلك تحت إرشاد القاضي المنتدب و بمساعدة “السنديك”ومسيري المقاولة، والخبراء إن إقتضى الحال.
-الفصل بين مصير المقاولة و مصير المسيرين سواء تعلق الأمر بمقاولة فردية أو في شكل شركة.
ومن هنا يمكن القول أن مساطر المعالجة إنما المقصود منها، هو: التسوية القضائية دون التصفية، على إعتبار أن هذه الأخيرة إنما تؤدي في النهاية إلى زوال المقاولة من الحياة التجارية بعد تصفية أموالها، وتقسيمها بين دائنيها، بحيث يبقى علاجها دون جدوى، على خلاف مسطرة التسوية القضائية التي تروم بالدرجة الأولى حماية المقاولة، وحماية الدائنين ثم الحفاظ على مناصب الشغل، وهي أهداف سعى المشرع من خلالها إلى الحفاظ على المقاولة بإعتبارها نواة الإقتصاد.
ثالثا: دوافع المشرع المغربي من تبني نظام صعوبات المقاولة
لعل الباحث عن احكام الافلاس في كتب الفقه الاسلامي وخاصة كتب المالكية، سيتأكد بأن نظام الإفلاس، نظام عقابي قاس، هدفه التضحية بشخص المفلس، وكرامته الإنسانية، في سبيل إرضاء الدائنين، دون أن يعير أي أهمية لحال المدين الذي هو في أحرج و أخطر مراحل حياته ألا وهي: الفترة التي تسبق إشهار إفلاسه.
وكذلك دون النظر إلى الأسباب التي دفعته إلى التوقف عن الأداء، حيث ينص الفصل (197)من القانون التجاري القديم أن:(كل تاجر أوقف عن دفع ديونه يعتبر في حالة إفلاس).
وإذا كانت بنود القانون التجاري القديم تشير إلى أن هذا النظام، نظام عقابي قاس، إلا أن هذا الخطر و آثاره ضئيلة جدا في المغرب، حيث تشير الإحصائيات التي أعدتها كتابة الضبط المدنية للمحكمة الابتدائيةبالدار البيضاء، أن عدد الإفلاسات المفتوحة من سنة 1975إلى سنة 1983 لا تزيد عن(62)تفلسة، و(39)تصفية قضائية، ومن سنة 1980إلى سنة 1989 عن 61 تفليسه و 84 تصفية قضائية.
وإذا كان نظام الإفلاس في المغرب لم يتأثر سلبيا على المقاولات، فلماذا توجه المشرع المغربي إلى إلغائه، واستبداله بنظام صعوبات المقاولة؟
هذا السؤال أجاب عليه الأستاذ احمد شكري السباعي بقوله: وقد يتساءل الباحثون عن الأسباب، والدوافع الكامنة وراء هذه الحركة التشريعية الهائلة، إلا أن أهم الأسباب الخارجية يكمن في عولمة الاقتصاد، على الرغم ما في كلمة “العولمة” من غموض في الأهداف والنتائج، ونصائح النقد الدولي التي تروم عصرنة الاقتصاد، وتحديث التشريعات التجارية، وإصلاح القضاء والإدارة، والشراكة مع الاتحاد الأوربي، والانفتاح على العالم الانجلوسكسوني، والانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، بعد انعقاد مؤتمر ألغات على ارض المغرب في مدينة مراكش الحمراء، والمشاركة في التجمع الاورو-متوسطي، والبحث عن أسواق جديدة واستثمارات جديدة.
وبعبارة ثانية، أن المغرب لم يعد يرغب في البقاء منعزلا عن محيطه الدولي، والجهوي الذي يتبنى مساطر الوقاية والمعالجة من الصعوبات التي تتعرض المقاولة، هذه المساطر التي تروم إنقاذ المقاولة بدلا من إقبارها، باعتبارها أداة للإنتاج، وتقديم الخدمات والتوزيع، وأداة للتشغيل واستيعاب اليد العاملة التي تعاني من العطالة أو البطالة، وأداة لموارد الدولة الضريبية.