قواعد البحث المنهجي عن الحقيقة في الإسلام
اعداد الباحث : الحسن الفرياضي – المركز الديمقراطي العربي
لقد خلق الله عز وجل الإنسان في أحسن تقويم، وميزه عن سائر المخلوقات بالعقل، ليدرك به الحقائق، ويميز به الأمور، “ويكفي للدلالة على أهمية العقل، واستخدامه، ما ورد في القرآن الكريم من آيات تمدح العقل والتعقل، والنظر والتدبر، وتذم الذين لا يعقلون “[1].
لكن قد يتسلط على حركة العقل في البحث عن الحقيقة أسباب تحول بينه وبين الوصول إلى تلك الحقائق، مثل : الجهل ، وطاعة الأهواء ، والتقليد الأعمى …
إن الاستقامة على طريق الوحي (كتبا وسنة) وإفراده بالتلقي، من شأنه أن يحرر العقل من كل تلك الأسباب ويجعله حرا للوصول إلى العلوم الثابتة، وذلك بالنظر والتفكر في النفس والكون والآفاق.. إلخ. وتفصيل ذلك في الآتي :
أولا . تحرير العقل من الهوى والشهوة:
لأن الهوى إذا كان هو الحاكم استغلق العقل، وسدت منافذ التفكير، فلا قيمة بعد ذلك للآيات البينات، والدلالات الواضحات، لأن الهوى يرد ذلك كله ويعرض عنه، فيصبح المرء أسيرا لسلطان الهوى، فتختلط بين يديه الدروب والمسالك، وتظلم في طريقه سبل الحق والهداية، وصدق أحمد شوقي حين قال :
إذا رأيت الهوى في أمة حكما فاحكم هنالك إن العقل قد ذهبا[2].
لذلك يقتضي تحرير العقل من الهوى والشهوة ، الاستقامة على طريق الوحي (كتبا وسنة)، لأنه يعصم المسلم عن التلاعب بتفسيرات توافق هواه وتلائم قصده. ( ولا شك أنني عندما أخضع عقلي كإنسان لقول الله تعالى إيمانا بأن فيه كل الحق – ولا حق سواه إذا كان يخالفه – فإنني في الواقع أحرره ولست أخضعه أو أقلل من شأنه لأن الاستسلام لله وحده تحرر واستعلاء على ما سواه. والعقل وقوانينه الفكرية من صنع الله، ومن ثم فخضوعه للحق وتوافقه مع الحق الآتي إلينا من الله، واستسلامه له وأخذه عنه، إنما هو تكريم له ليس تقليلا من شأنه، وليس هناك تكريما لكائن أعظم من وضعه في وضعه المناسب له الذي خلقه الله من أجله “[3].
وفي القرآن الكريم تقريرات كثيرة لهذه الحقيقة منها قوله تعالى : (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق)[4].
فكل حكم بخلاف حكم الله الذي أنزله في القرآن، أو دعا إليه، جهالة بالحق الواضح، ولهذا قال تعالى: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك)[5]. أي: “إياك والاغترار بهم، وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فصار إتباع أهوائهم سببا موصلا إلى ترك الحق الواجب إتباعه”[6]. لأن أكثر هؤلاء الذين يعرضون عن إتباع الحق هم: (أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى جانبهم من الفلاسفة وغيرهم، ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم، أو طلبا للرياسة، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ويتأول عليهم فيما أرادوا حسبما ذكر العلماء، ونقله الثقات من مصاحبي السلاطين.
فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقولهم، فأساءوا الظن بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة، حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها، من الصراط والميزان وحشر الأجساد، والنعيم والعذاب الجسميين، وأنكروا رؤية الباري…وأشباه ذلك، بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا، بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل…إلى غير ذلك من الشنعات.
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيات، وإن كانت مخالفة لصلب الشريعة، جزما على أن يغلب عدوه، أو يفيد وليه، أو يجر إلى نفسه [نفعا][7].
ثانيا. تحرير العقل من توجيهات الطغاة وكهان الصوفية :
وذلك بالنظر إلى العلم الصحيح الذي جاء به الوحي لا إلى التوجيهات والخطابات التي يتزعمها الطغاة وكهان الصوفية.
قال الإمام الشاطبي: ” وربما احتج طائفة من نابغة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن، وقد ذم الظن في القرآن، كقوله تعالى : (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس)[8]. وقال: (إن يتبعون إلا الظن ، وإن الظن لا يغن من الحق شيئا)[9]… وما جاء في معناه، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس تحريمها في القرآن نصا، وإنما قصدوا بذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا “[10].
واضح مما تقدم ان الوصول إلى المعارف العلمية، والحقائق الغيبية، والكونية، والإنسانية، في الفكر الإسلامي، يقتضي الالتزام بمجموعة من القواعد العامة والقوانين المنظمة التي تحكم عمليات العقل خلال البحث، والنظر في النصوص الشرعية.
فما هذه القواعد المنهجية عن الحقيقة في الإسلام؟
حدد فاروق أحمد حسن دسوقي في كتابه “قواعد للباحث عن الحقيقة في الإسلام“، أربعة قواعد منهجية لتلقي الحقائق في الإسلام، وقاعدة أخرى سلوكية تتم بإرادة الإنسان واختياره للخير وابتغائه للحق.
أما القواعد المنهجية فقد حددها في ما يلي:
- وجوب الرجوع إلى القرآن الكريم كله لمعرفة حقيقة قرآنية واحدة .
- إفراد الله عز وجل بالألوهية، والربوبية يوجب إفراد الوحي مصدرا للعقيدة والشريعة.
- الوحي والعقل ومنهج التأويل العقلي.
- ضرورة توافق الحقيقة المستنبطة من البحث في القرآن مع غيرها من الحقائق القرآنية.
أما القاعدة الثانية في تلقي الحقيقة فهي قاعدة سلوكية، “لأنها لا تتم بالفكر ولا يطلب منها الفكر تطبيقها، ولكنها قاعدة سلوكية بإرادة الإنسان واختياره للخير وابتغائه للحق، وليس في مقدور القواعد المنهجية والأساليب الفكرية أو غيرها إلزام أحد باختيار الخير دون شر أو العكس”[11] .
إذن وبناء على ما سبق يتبين لنا أن البحث المنهجي في الإسلام يعتمد على طريقتين للوصول إلى الحقيقة، هما:
الطريق الأول. الوحي:
الوحي في المعنى الاصطلاحي له دلالتان هما: الوحي المصدري والوحي الاسمي لا المصدري.
- أولا: الوحي المصدري هو: “إعلام الله تعالى من يصطفيه من عباده ما أراد من هداية بطريقة حفية سريعة”[12].
- ثانيا: الوحي الاسمي، هو: “الواقع من الموحى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب وحيا، لأنه واقع فيما كتب ثابت فيه، كما قال كعب بن زهير:
أتى العجم والأفاق منه قصائد بقين بقاء الوحي في الحجر الأصم
يعني به الكتاب الثابت في الحجر[13].
والفرق بين الوحي الاسمي والوحي المصدري هو أن: “الوحي الحدث أي النزول الخفي في السماء وهو سبب النبوة، وهو الذي انقطع، والوحي الصفة وهو لا ينقطع أبدا”[14].
إذن الوحي هو: ” الخبر الصادق عن الله تعالى، فكل ما جاء منه تعالى فهو الحق اليقين، لأنه سبحانه وتعالى هو مصدر العلم والمعرفة، لأنه خالق الإنسان ومعلمه وممده بأنواع المعارف الفطرية والنقلية والحسية والمكتسبة، قال تعالى: (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآن(2) خَلَقَ الْإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4))[15]، أي “أن الله تعالى علم الإنسان بيان ما إليه الحاجة من أمر دينه ودنياه من الحلال والحرام والمعاش والمنطق، وغير ذلك مما به الحاجة إليه”[16].
الطريق الثاني. التجربة:
المقصود هنا بالتجربة التي تجمع بين الحس والعقل، لأن الحس هو مبدأ المعرفة، ومنه يتدرج الإنسان إلى المعرفة العقلية التي توصل إلى وجود سبحانه وتعالى، ثم الإيمان به.
“والعقل يسند في أحكامه إلى معطيات الحس التي تأتيه رسله، كالسمع والبصر وغيرهما من الحواس، وهذه تنقل – بدورها – مدركاتها عن أشياء موجودة مشهودة تقع عليها الحواس مجتمعة أو منفردة، فيقوم العقل بعملية التركيب والتحليل والتجميع والتفريق، وقياس الأشياء والنظائر، ثم استنباط القواعد واستخراج النتائج، واستصدار الأحكام، وهو في كل هذا العمل إنما يعتمد على معطيات حسية، لها وجود مشهود، ولو تعدى هذا المجال لنطق بغير علم، وحكم من غير هدى”[17].
إذن بعد ما تمر هذه العملية العقلية والحسية بجميع هذه المراحل بشكل صحيح، يصبح بعد ذلك منطق التفكير والفهم والقيام بمختلف الأنشطة على أساس الإيمان بالله خالق الكون، قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [18]، أي: “هو المنفرد بهذه النعم حيث (أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) ولا تقدرون على شيء، ثم إنه (جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). خص هذه الأعضاء الثلاثة لشرفها وفضلها ولأنها مفتاح لكل علم، فلا وصل للعبد علم إلا من أحد هذه الأبواب الثلاثة، وإلا فسائر الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة الذي أعطاهم إياها وجعل ينميها شيئا فشيئا إلى أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به، وذلك لأجل أن يشكروا الله، باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله، فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بأقبح معاملة”[19].
وبناء على ما سبق تظهر وسطية الإسلام في جمعه بين الوحي والتجربة في الوصول إلى المعرفة الهادفة والحجة والبرهان.
قال أحمد بن عبد الرحمان الصويان :” إن أعظم قواعد الإسلام: الاعتماد على الحجة والبرهان، والتنفير من الظن والترخص، وهذا يتطلب وزن المسائل كلها – صغيرها وكبيرها – بالميزان القسط الذي يعتمد ابتداء من الأدلة والإثبات، فما الدليل فهو حق وما سواه فهو باطل”[20].
[1] – موقف أهل السنة من الفرق ( القسم 1 / ص : 18 ).
[2] – نفسه ( ص: 20 ).
[3] – قواعد منهجية للباحث عن الحقيقة في القرآن والسنة (ص: 33 – 34 ).
[4] – سورة المائدة من الآية : 48.
[5] – سورة المائدة من الآية : 49
[6] – تفسير السعدي (م: 03 / ص : 133 – 134).
[7] – الاعتصام للشاطبي (م: 03 / ص: 133-134).
[8] – سورة النجم : الآية : 23.
[9] – – سورة النجم : الآية :28
[11] – نفسه، ص 47 – 48 .
[12] – مباحث في علوم القران لصناع القطان، مكتبة وهبة للنشر، الطبعة السابعة، 1995 ، ص 27 .
[13] – جامع البيان، ج 5 ، ص 403 .
[14] – هذه رسالات القرآن فمن يتلقاها؟، فريد الأنصاري، إعداد وتقديم عبد الناصر المقري، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى، 1431 هـ / 2010 م ، ص 43 – 44 .
[15] – سورة الرحمان، الآيات 1 – 4 .
[16] – جامع البيان، ج 2 ، ص 170 .
[17] – مصادر الإستدلال على مسائل الاعتقاد، عثمان علي حسن، دار الوطن للنشر، الطبعة الأولى، 1413 هـ، ص 81 .
[19] – تفسير الشيخ السعدي، ص 448 .
[20] – منهج التلقي والاستدلال بين أهل السنة والمبتدعة، ص 23 – 24 .