الشرق الأوسطعاجل

إحياء الحراك النسوي: التحرش ومناهضة العنف ضد المرأة في تونس

اعداد: سهام الدريسي – باحثة دكتوراه في العلوم السياسية 

  • المركز الديمقراطي العربي

 

‘المتحرش ما يركبش معنا’ شعار وصم و إقصاء تكسر من خلاله بعض منظمات المجتمع المدني بالتعاون مع مؤسسات الدولة التونسية جدار الصمت و التحفظ لدى المواطن العادي إزاء فئة المتحرشين، خاصة بالفضاء العام و وسائل النقل تحديدا. لا تعكس هذه الحملة التوعيّة التي أطلقها و نظمها مركز البحوث و الدراسات و التوثيق و الإعلام حول المرأة (الكريدف) بدعم من الإتحاد الأوروبي و صندوق الأمم المتحدة للسكان بشراكة مع شركة النقل تونس خطورة ظاهرة التحرشّ و انتشارها خاصة بعربات المترو و الحافلات و الطريق العام، و لكن أيضا تعبّر عن مأزق أخلاقي و ثقافي لدى جزء هام من المجتمع التونسي الذي يصرّ على مقولات دونية المرأة و التشريع ‘المجتمعي’ للتحرشّ بها أو التغاضي عن هذه الممارسات المرضية و المقززة لدى ‘الأغلبية الصامتة’.

و بالتالي، فإنّ هذه المبادرات التحسيسية تتبلوّر ضمن انتفاضة كاملة للحراك النسويّ في تونس، بعد 2011، لإعادة بناء الوعي الجمعيّ بقضايا المساواة و الحضور الآمن للنساء بالفضاء العام، لذلك تسعى هذه الحملة لزعزعة حالة التغافل المجتمعيّ لمعاناة المرأة المٌمارس ضدها العنف الجنسيّ إلى جانب الدفع بالمجتمع التونسي ذاته لمواجهة رواسب المنظومة الذكوريّة ‘التسلطية’ و الانخراط الفاعل بمناهضة  ممارسات ‘مقززة’ لطالما رٌوّج لها أو تمّ التطبيع معها كأحداث شاذة، استثنائية و كذلك ‘عادية’ كضريبة لمزاحمة’ المرأة للرجل في الفضاء  العام. و ممّا لا شك فيه أنّ هذه الحملة ضد التحرشّ تعكس المفارقات العميقة بين المأسسة التشريعية ذات النفس النخبوي للمساواة بين الجنسين و تصلبّ المنظومة الذكورية في المجتمع التونسي ، رغم الامتيازات التي تمّ تحقيقها على مدار عقود للمرأة التونسية.

منذ بداية حقبة حكم الزعيم ‘الحبيب بورقيبة’ أصبح الجسد الأنثويّ نقطة صراع وتجاذب إيديولوجي بين العلمانيين و الإسلاميين، و لكن تمتعت المرأة بجملة من الحقوق و الحريات ذات بعد تقدميّ بالرغم من الوصاية الواضحة للمشروع البورقيبي على تحريك الميكانزمات التشريعية و التنفيذية الضامنة لتحررها مما لم يسمح بصعود حراك نسويّ ملتصق بالشارع يؤثر بعمق في البنى الفكرية و المخزون الثقافي للمجتمع التونسي.

يمكن القول أنّ عمق المفارقات داخل ثقافة المجتمع التونسي بخصوص حضور المرأة بالفضاء العام ظهرت بوضوح و للعلن بعد ثورة الكرامة 2011 لأنها صارت تحظى باهتمام إعلامي كبير و أيضا شبكات التواصل الاجتماعي. كمّا أثرت حالة الانفلات الأمني وغياب الوازع الأخلاقي لدى العديد من الأفراد بسبب الاعتقاد الراسخ بضعف أجهزة الدولة سلبا على أمن المرأة في الطريق لتصبح ظاهرة التحرشّ من أبرز التهديدات اليومية و الروتينية.  و في هذا السياق، يبدو أنّ مسارات تحرير المرأة، التي أسس لها صناع القرار بتونس بخيار سياسي و مصيري من بورقيبة، و ديناميكية النقاشات بين النخب التونسية حول قضاياها لم يستطيع تغيير العقليات التسلطية المستبيحة لإذلالها كمّا أظهرت الأرقام المفزعة لظاهرة العنف (بكلّ أنواعه) و التحرّش.  و تتمثّل الخطورة ليس فقط في التعديّ الشنيع على ‘الآخر’ و استباحة جسده لإرضاء دوافع شهوانية أو عقد استنقاص الذات ، بل أيضا في عمق الأذى النفسي الذي تعايشه الضحيّة و الذي سيؤثر سلبا على الأسرة و المجتمع ككلّ.

تتبنى هذه الحملة التوعوية بخطورة الصمت عن ظاهرة التحرش و ساعية لبناء وعي مجتمعي جديد بالدفع إلى ضرورة اتخاذ مواقف جماعية لإقصاء المتحرشين، من طرف مركز الكريدف، و العديد من المنظمات و المؤسسات الداعمة الأخرى،  من خلال إلصاق الشعارات المنددة بظاهرة التحرش في الفضاء العام على عربات المترو و الحافلات إلى جانب ملصقات وهاشتقات ذات بعد توعويّ . و كذلك تتضمن هذه الحملة برمجة فيلم وثائقي قصير يفضح ظاهرة التحرش على مواقع التواصل الاجتماعي إلى جانب تمريره كومضات في بعض وسائل النقل، كمّا تمّ إعداد تطبيقة على الهاتف الجوال لحثّ و مساعدة ركاب النقل العمومي (الأغلبية الصامتة)  على تصوير جريمة التحرشّ بالإضافة إلى تطبيقة ثانية بمسمى ‘اشكي’ (الشكوة) تحتوي على جملة من التوجيهات الضرورية و العمليّة لمساندة المرأة ‘الضحية ‘ و تسهيل إجراءات التبليغ إلكترونيا.  يبدو أنّ مركز الكريدف يراهن على نجاح هذه الحملة من خلال العمل بالتوازي ميدانيا و إعلاميا و كذلك افتراضيا، حيث استطاعت استقطاب اهتمام روّاد مواقع التواصل الاجتماعي التي يتمّ التعوّيل عليهم لنشر فيديوهات ترصد ممارسات التحرشّ  و تشهّر بأصحابها كمّا اهتمت العديد من وسائل الإعلام المرئية و السمعية بالقضية و تناولتها بالنقاش المعمق خاصة عند تعرّضها لحادثة ‘نسرين’ التي تضررت من التحرش بأحد القطارات إلا أنها لم تشجعت و خرجت على قناة إعلامية خاصة بالإضافة إلى نشرها لفيديو تندد فيه بهذه الممارسات المقززة حيث اعتبرت أنّ الصامتين و المبررين للتحرشّ ‘خلايا نائمة للتحرش..متحرش مع وقف التنفيذ’ إلى جانب استنكار سلبية بعض رجال الأمن و سكوتهم عن تجريم هذه الممارسات المشينة  .

تعمل هذه الحملة على إشراك ‘الرأي العام’ المتفرّج الصامت على وقائع التحرش في وسائل النقل العمومي، ليس فقط لاستهجانها بل أيضا لإعادة هندسة الوعي الجمعيّ ،الذي تقبّل سابقا ممارسات التحرّش كسلوكيات ‘شبه عادية’، إلى ترسيخ آليات رفضها و تجريمها اجتماعيا و قانونيا  دون الوقوع في دوامة التبريرات الواهية للظاهرة    و تحميل المسؤولية للمرأة.  و في هذا الإطار، أكدت مديرة مركز ‘الكريدف’ دلندة الأقرش أنّ المسح الإحصائي الأخير أكد أنّ ما يناهز 53.5 بالمائة من نساء مستجوبات (3000 إمراة)  قد تعرضنّ إلى التحرش بالطريق العام أو وسائل النقل ، كمّا أشارت دراسة للديوان الوطني للأسرة و العمران البشري أنّ قرابة 15.5 بالمائة من النساء قد تضررنّ من التحرشّ. و يعتبر المنخرطون في هذا الحراك النسويّ المجتمعي ضد ظاهرة التحرشّ أنّ هذه الأرقام المفزعة تعكس الفجوة الحقيقية التي تسببت فيها غياب لإستراتيجيات وطنية شاملة على المستوى التعليمي، الأسري، الأمني لمناهضة هذا العنف المسلّط على المرأة من جهة، إلى جانب الخلل ألقيمي لدى بعض الفئات من جهة أخرى. و لكن يجدر بالذكر، أنّ دستور 2014 قد أوكل الدولة لاتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على العنف المسلّط على النساء مثل التحرش الجنسي أو الاغتصاب إلى جانب التصديّ و مكافحة الاتجار بالبشر  ، و الذي قد تعزّز تشريعيا مع بإصدار القانون الأساسي المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة بتاريخ 15 أوت 2017 بالرائد الرسميّ الذي صادق عليه مجلس نواب الشعب بأغلبية الحاضرين بعد شهور من التجاذب و المشاحنات بين الإسلاميين و العلمانيين حول النوع الاجتماعي..الخ.

تتمثّل الأطراف المشاركة في هذا الحراك ظواهر التحرش و العنف المسلط على المرأة ليس كخلل في النظام الاجتماعي، بل من زاوية نظر أنّها من نتاج لخطاب مجتمعيّ يكرّس عدم المساواة بين الجنسين و يستصيغ المقولات المرسخّة لدونية المرأة.   وبالتالي، فإنّ هذا التشريع المجتمعي (لدى فئة كبيرة) للعنف هذه المرأة والقبول الضمنيّ بانعدام ضمان الأمان عند حضورها في الفضاء العام، بمعنى أنّ ممارسات التحرشّ صارت جزءا من الحياة اليومية و الواقع المعاش للمواطن التونسي.  يتمثّل التحدي الأكبر أمام النخبة السياسية و الإعلام بالإضافة إلى المجتمع المدني التصدي إلى العنف المترسّخ في بنية الخطاب الاجتماعي حيث في الغالب الأذى الجسدي أو الرمزي المسلط على المرأة يتطوّر و يعاد إنتاجه كأداة لإثبات الهيمنة الذكورية (خاصة في ظلّ ارتخاء سلطة الدولة)  و كطريقة ‘همجية’ لتواصل مع الجنس الأخر  ‘المشيء’. لذلك تؤكد رئيسة الجمعية التونسية للنساء الديمقراطية ‘منية بن جميع’ في تصريح لها لأحد المواقع الإلكترونية  (هاف بوست عربي)أنّ قرار التغريم المالي للمتحرشين في الفضاء العام (يتراوح بين 200 -400 دولار) ذو بعد زجريّ و عقابي بالرغم أنّه لا يرتقي و لا يتوازى مع المعاناة النفسية التي تعايشها الضحيّة بسبب ‘عقلية متخلفة و رجعيّة  عن رجال تونس الذين مازالوا يعتبرون أن الفضاء العام و الطريق هو فقط ملك للرجل و عليه فإنّ المرأة بنظرهم مستباحة من خلال الاعتداء اللفظي أو التصرفات الخادشة للحياء’.  من المهم القول أنّ هذه المبادرات تثبت أنّ الحراك النسويّ قد تخلص من وصاية الدولة و يتخذ خطوات كبيرة لتغلغل في النسيج المجتمعي و تغيير العقليات لافتكاك حضور آمن للمرأة التونسية داخل الفضاء العام.

1/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى