عن ثقافة المواطنة.. متى تبدأ ؟
اعداد :أ. نجاح عبدالله سليمان – المركز الديمقراطي العرب
في محاولة الكتابة عن موضوع هام كهكذا، حيث الحديث عن “ثقافة المواطنة”، وهى تلك الثقافة التي ترتكز على “مبدأ المواطنة” كمحور أساسي حاكم لمجمل تفاعلاتها، فالمواطنة إذن هي جملة من الحقوق والواجبات تتحقق من خلال قدر من الوعي والمعرفة يلزم منها سعي الفرد لتحصيل حقوق المواطنة وسعيه للوفاء بالتزاماتها. وهذا المسعى لابد أن يتم من خلال وسائل مشروعة يحددها النظام ويتعلمها ويعيها الفرد.
في ضوء هذا التحديد تتحدد لنا علاقة المواطنة بالوطنية التي هي علاقة حكم الواقع بحكم القيمة، حيث تبدو لنا المواطنة حكم واقع، لأنها انتماء موضوعي إلى وطن، إلى مجتمع ودولة؛ والوطنية حكم قيمة وتحديداً ذاتياً للفرد والمجتمع والدولة؛ وبالتالي فلا وطنية بلا مواطنة، ولا مواطنة بلا حقوق مدنية وحريات أساسية؛ فنفي المواطن هو نفي للديمقراطية والدولة ومن ثم فإن نفي حكم الواقع هو نفي حكم القيمة المرتبط به أوثق ارتباط.
نعم المواطنة كأي اتجاه تتكون من ثلاثة عناصر وهي المعلومات والمشاعر والسلوك. وهذه العناصر يمكن النظر منهجيًا لهذه العناصر على مستويين: المستوى الأول المفهوم الذهني والشعور النفسي ويتمثل في المعلومات عن الوطن والوعي بالحقوق والواجبات ومحبة الوطن والرضا عن تحصيل الحقوق وأداء الواجبات، والمستوى الثاني ممارسة المواطنة وهي في الغالب ذات شقين: الشق الأول الالتزام العام بالأنظمة والقوانين واحترامها والشق الثاني ممارسة العمل السياسي والعمل المدني الطوعي. وإذا كان المستوى الأول يعتمد في معظمه على التربية والتعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية كالأسرة والمسجد فإن المستوى الثاني يعتمد غالبًا على النظم والتشريعات التي تنظم عمل المواطنين من ناحية وعلى مستوى الدافعية عند الأفراد من ناحية أخرى.
الحقيقة أنه لربما كان مستوى الوعي بالمواطنة عاليًا عند المواطن ولأن النظم تقيد عمل المواطن ومشاركته في مجالات العمل السياسي والعمل المدني فلا يشارك المواطن ليس كم ضعف الدافعية ولكن النظم والتشريعات تقيد حريته في ذلك. ويعتبر الوعى بالمواطنة نقطة البدء الأساسية فى تشكيل نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى بلاده وإلى شركائه فى صفة المواطنة، لأنه على أساس هذه المشاركة يكون الانتماء وتكون الوطنية. فغياب حقوق المواطنة يؤدى إلى تداعى الشعور بالانتماء للوطن، وتباين امتلاك الأفراد لهذه الحقوق يؤدى إلى تفجر قضايا التمييز التعسفى وتفكك روابط التكامل الوطنى.
بذلك يمكن القول أن مبدأ المواطنة يترسخ بالتمييز بين نوعين من الحقوق هما: الحقوق المدنية والحقوق السياسية. الأولى، تهدف إلى تمكين الإنسان من العيش والحياة كمواطن داخل بلده بحكم عضويته في الجماعة السياسية، أي عضويته في المكون البشرى للدولة، وهى حقوق يجب أن يكون في مقدور كل إنسان أن يمارسها بحرية دون تدخل من الغير أو من الدولة طالما أنه لم يرتكب ما يخالف القانون مثل حرية الرأي والتعبير وحق الملكية. أما الثانية، فهي أكثر فاعلية، فهذه الحقوق تضمن لصاحبها المساهمة الإيجابية في ممارسة السلطات العامة في بلاده وذلك من خلال المشاركة في مؤسسات الحكم السياسية والقانونية والدستورية، ولا تكون المواطنة إلا لمن يكون له، طبقاً للدستور والقانون، هذا النوع الثاني من الحقوق.
هنا يتأكد لنا أن المواطنة مقترنة بحق المشاركة، بمفهومه العام في كل ما يتعلق بالوطن، وبمفهومه الخاص أي المشاركة في الحكم، أي أن يكون الإنسان طرفاً معترفاً به في حكم بلاده وفى إدارة شئونها، وألا يكون محروماً أو معزولاً عن ممارسة هذا الدور. فالأفراد المقيمون على أرض الدولة والذين يجبرون على الانصياع للأوامر الصادرة دون أن يسهموا بشكل ما فى إعدادها وإصدارها هم من الأجانب، فهؤلاء السكان مع إمكانية تمتعهم بالحقوق المدنية لا يمكن اعتبارهم مواطنين، أى أعضاء أصلاء فى الجماعة السياسية ممن يساهمون فى توجيه وإدارة حياتها السياسية.
ثمة علاقة لا انفكاك فيها بين مسار نضج ورقي المواطنة واكتمال مكوناتها ومسار استقلال الدولة وثبات العزة والكرامة الوطنية من ناحية، ومسار تثبيت الحقوق السياسية والمدنية للمواطن، ناهيك عن حقوقه الإنسانية، وتمتعه بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات دون تمييز في مناخ من الحريات الديمقراطية، وبذلك تتوافق حرية الوطن مع حرية المواطن، وتتكرس ماهية الدولة (مملكة القانون) مع تكريس ماهية المواطنة والديمقراطية.
لذلك فالمواطنة تشكل الحد الفاصل بين ترسيخ مكونات المجتمع المدني وتعبيره السياسي أي الدولة الديمقراطية، والمجتمع الجماهيري الممتص فيه وفي السلطة مؤسسات المجتمع المدني وتعبيره السياسي أي الدولة التسلطية، مما يضعها مفهوميًا وواقعيًا في خانة المكون الأساسي لبناء الدولة ذات النزوع الديمقراطي.
اقترن مفهوم المواطنة أو ما يدل عليه من مصطلحات عبر التاريخ باقرار المساواة للبعض أو للكثرة من المواطنين, وتمثل التعبير عن اقرار مبدأ المواطنة في قبول حق المشاركة الحرة للافراد المتساوين. وقد مر مبدأ المواطنة عبر التاريخ بمحطات تاريخية، نما فيها مفهوم المواطنة حتى وصل إلى دلالته المعاصرة. إلا ان اقرب معنى لمفهوم المواطنة المعاصرة في التاريخ القديم هو ما توصلت إليه دولة المدينة عند الاغريق, والذي شكلت الممارسة الديمقراطية لأثينا نموذجًا له.
جدير بالتأكيد أن سعي الانسان من أجل الانصاف والعدل والمساواة يعبر عن فطرة انسانية حالت القوة الغاشمة, وما زالت تحول, دون الوصول غليه, ومن هنا فإن تاريخ مبدأ المواطنة هو تاريخ سعي الانسان من اجل الانصاف والعدل والمساواة, وقد كان ذلك قبل ان يستقر مصطلح المواطنة او ما يقاربه من معان في الادبيات بزمن بعيد, فقد ناضل الانسان من اجل اعادة الاعتراف بكيانه وبحقه في الطيبات ومشاركته في اتخاذ القرارات على الدوام, وتصاعد ذلك النضال واخذ شكل الحركات الاجتماعية منذ قيام الحكومات الزراعية في وادي الرافدين مرورًا بحضارة سومر وآشور وبابل وحضارات الصين والهند وفارس وحضارات الفينيقيين والكنعانيين والاغريق والرومان.
لقد استجابت الحكومات الملكية التي سادت تلك الحقب القديمة -بدرجات متفاوتة- لمطالب بعض الفئات التي تعتمد عليها (مثل النبلاء والكهنة والمحاربين), ومنحتها درجة من المساواة أعلى من غيرها من بقية السكان, كما أن الحكمة قد هدت بعض الملوك في الحضارات الزراعية -مثل حمورابي إلى أهمية اقامة الشرائع واصدار القوانين التي تنظم الحياة وتحدد الواجبات وتبين الحقوق. وقد استمر ذلك التطور في العصور القديمة بفضل سعي الانسان إلى تحقيق الانصاف ومطالبته بالمشاركة في الطيبات وفي اتخاذ القرارات, إلى أن جاءت الحضارة الاغريقية والرومانية وابدع الفكر السياسي الإغريقي ومن بعده الفكر الروماني القانوني على وجه الخصوص, ليضع كل منهما أسس مفهومة للمواطنة في العصر القديم.
لعل الحياة القبلية العربية التقليدية وما نشأ عنها من حكومات كانت ايضًا مثل التجارب السياسية الاغريقية والرومانية -المشار إليها سابقًا- توفر قدرًا من المشاركة السياسية للمواطنين الرجال الاحرار. ويعود ذلك إلى ما يتطلبه تماسك القبيلة وعلاقات القبائل المتحالفة من مشاركة في اتخاذ القرارات الجماعية الخاصة بهم. وقد كان تأثير طبيعة السلطة في القبيلة العربية التقليدية ونمط علاقاتها وراء ما عرفت اليمن في عهد الدولة القيتانية ودولة سبأ ومعين من نظم حكم تمثل فيها القبائل. وقد هيأت تلك التقاليد القبلية والتجارب السياسية العربية المشار اإليها أعلاه إلى جانب التطور التجاري والاستقرار الذي فرضته ظروف مكة قبل الاسلام وجعلت أهلها يميلون إلى السلم, هيأت لأن يبرز في مكة نوع من (حكم المدينة) منذ أن ثبت قصي رئاسته على مكة ونظم شئون المدينة) فأنشأ مجلسا يعرف بـ(الملأ), كما أسس قصي دار الندوة واقام في مكة حكومة خاصة غير مطلقة السلطة كان له فيها منصب السدانة واللواء.
عندما كان الاسلام على وشك البزوغ قام في مكة حلف الفضول الذي كان يتدخل لنصرة المظلوم سواء كان من اهل مكة أو من زوارها وقد شهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في صباه قيام هذا الحلف وقال عنه فيما بعد (لو دعيت به في الاسلام لأجبت). ويسجل الشاعر العربي حلف الفضول في ديوان العرب بقوله: أن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ألا يقر ببطن مكة ظالم امر عليه تعاهدوا وتواثقوا فالجار والمعتر فيهم سالم وقد قرب المسلمون الأوائل أيضًا من مفهوم المواطنة كما كان معروفًا قبل ظهور الاسلام. وكان ذلك بفضل ما يحمله الاسلام من منظور انساني للوحدة الانسانية والمساواة في الحقوق والواجبات, وإلى جانب المساواة فقد كانت مبادىء العدل والقسط والانصاف من المبادىء الجوهرية التي أكد عليها الاسلام, وجاءت بها آيات القرآن الكريم (ان الله يأمر بالعدل والاحسان) (الآية 90 من سورة النحل).
يقول الشيخ محمود شلتوت في هذا الصدد ان امر الله بالعدل (أمرًا عامًا, دون تخصيص بنوع دون نوع, ولا طائفة دون طائفة, لأن العدل نظام الله وشرعه, والناس عباده وخلقه, يستوون – ابيضهم واسودهم, ذكرهم وانثاهم, مسلمهم وغير مسلمهم – أمام عدله وحكمته).
يأتي اخيرًا مبدأ الشورى, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤكد إلى جانب المساواة بين الناس في الحقوق والواجبات والحكم بالعدل والقسط والانصاف, الكثير من أسس تحقيق مبدأ المواطنة ليس بالنسبة للمسلمين فقط وإنما لكل غير المحاربين من أهل دار الاسلام مسلمين وغير مسلمين. وقد كان من الممكن أن يبني المسلمون على هذه الأسس نظامًا سياسيًا يراعي مبدأ المواطنة إلى جانب الأخوة الإسلامية. ويذكر ادم متز في دراسته عن الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري أن المسلمين كانوا أكثر تسامحًا مع غير المسلمين من الحضارات المعاصرة لهم, وأن (الإسلام أكثر تسامحًا مع طوائف النصارى من الدولة الرومانية الشرقية).
من هنا يمكننا القول أنه لو قيض الله المسلمين العمل بمبدأ الشورى والافادة من مدلول صحيفة المدينة وتم تحويل ذلك إلى نظام سياسي يحقق المسواة والعدل والانصاف بين المسلمين انفسهم وبين المسلمين وغير المسلمين ممن يشاركونهم الوطن, لكان المسلمون الاوائل، كانوا عرضة لممارسات عصرهم وربما متطلبات استقرار دولتهم الفتية الصاعدة, ولم يتمكنوا من تطوير نظام الشورى يكون باستطاعته في كل زمان ومكان تحقيق مقاصد الشريعة ومراعاة الناس فتحول الحكم بسرعة الى ملكية مطلقة يتلقفها من غلب, ومن هنا ابتعد المسلمون عامة عن ذلك التطور السياسي الذي حدث في العالم اعتبارًا من القرن الثالث عشر الميلادي واعاد اكتشاف مبدأ المواطنة.
لقد تراجع مبدأ المواطنة في الفكر السياسي عامة طوال ما اصطلح على تسميته في أوروبا بالعصور الوسطى التي امتدت من 300 – 1300 بعد الميلاد وذلك بعد أن اندثرت التجارب الديمقراطية المحدودة في دائرتي الحضارتين الاغريقية والرومانية من جهة, ومن جهة أخرى بسبب توجه الحضارات السائدة آنذاك بما فيها الحضارة العربية الاسلامية الصاعدة إلى اقامة حكم ملكي مطلق غير مقيد. ولم يعد اهتمام الفكر السياسي بمبدأ المواطنة حتى حلول القرن الثالث عشر عندما بدأت اوروبا تعيد اكتشاف مبدأ المواطنة وتبدع فيه, حيث قام الفكر السياسي والقانوني الجديد في دائرة الحضارة الغربية, منذ القرن الثالث عشر حتى قيام الثورتين الأمريكية والفرنسية في القرن الثامن عشر, بصياغة مبادىء واستنباط مؤسسات وتطوير آليات وتوظيف ادوات حكم جديدة, أمكن بعد وضعها موضع التطبيق تدريجيًا تأسيس وتنمية نظم حكم قومية مقيدة السلطة من خلال حركات الاصلاح المصحوب بالانتقاضات الشعبية إن أمكن, وإلا فمن خلال الثورات المؤسسة للديمقراطية مثل الثورة الامريكية والثورة الفرنسية.
جدير بالتأكيد أن عملية الانتقال التاريخية من الحكم المطلق إلى الحكم المقيد ومن وضع التابع إلى وضع المواطن لم تكن عملية سهلة, بل كانت مخاضًا عسيرًا قطعت فيه رؤوس ملوك وسالت على دربه دماء شعوب, ويعود الفضل في انجاز ذلك التحول التاريخي إلى أن الناس في دائرة الحضارة الأوروبية (غيروا ما بأنفسهم) من رضى بالتبعية إلى اصرار على المشاركة الفعالة التي تحقق مصالح الناس وتصون كرامتهم.
كما أن سراة القوم عندهم استطاعوا التوصل إلى قواسم مشتركة شكلت أهدافًا وطنية مشتركة لنضال شعوبهم. الأمر الذي سمح بضبط نظام الحكم وترشيده في دائرة الحضارة الغربية. ويمكننا رصد ثلاثة تحولات كبرى متداخلة ومتكاملة مرت بها التغيرات السياسية التي أرست مبادىء المواطنة في الدولة القومية الديمقراطية المعاصرة: أولها: تكوين الدولة القومية. وثانيها: المشاركة السياسية وتداول السلطة سلميًا, ثالثها: ارساء حكم القانون واقامة دولة المؤسسات. وبهذه التحولات التي تمت عبر سبعة قرون وكرست الدولة القومية, والمشاركة السياسية وحكم القانون, تم ارساء مبدأ المواطنة في دائرة الحضارة الاوروبية.
كما أدت تلك التحولات الجذرية إلى انتقال مفهوم المواطنة من المفهوم التقليدي للمواطنة الذي استمد جذوره من الفكر السياسي الإغريقي والروماني وجاء تلبية لحاجة الدولة القومية الحديثة ونضال الشعب فيها, إلى المفهوم المعاصر للمواطنة الذي يستند إلى فكر عصر النهضة والتنوير وطروحات حقوق الانسان والمواطن, والدعوة لأن يكون الشعب مصدر السلطات وبذلك تم ترسخ مبدأ المواطنة واقر كحق ثابت في الحياة السياسية بقيام الثورتين الامريكية والفرنسية, واتسع نطاق ممارسته تدريجيًا منذ القرن الثامن عشر حتى يومنا هذا باعتباره احدى الركائز الأساسية للعملية الديمقراطية.
لتحديد المفهوم المعاصر لمبدأ المواطنة – في الاستخدام الغربي والعربي نشير إلى الجوانب التالية: أولا: مفهوم المواطنة, ثانيًا: مدى مناسبة لفظ المواطنة في العربية للدلالة عليه. ثالثًا: أبعاد مبدأ المواطنة وشروط مراعاته. وتشير دائرة المعارف البريطانية إلى (المواطنة بأنها علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة, وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق في تلك الدولة), وتؤكد على أن (المواطنة تدل ضمنًا على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسئوليات). وتختم دائرة المعارف البريطانية مفهومها للمواطنة, بأن المواطنة (على وجه العموم تسبغ على المواطن حقوقًا سياسية, مثل حق الانتخاب وتولي المناصب العامة).
تذكر موسوعة الكتاب الدولي أن المواطنة هي عضوية كاملة في دولة أو في بعض وحدات, وهذه الموسوعة لا تميز بين المواطنة والجنسية مثلها مثل دائرة المعارف البريطانية المناصب العامة. وتؤكد ان (المواطنين لديهم بعض الحقوق, مثل حق التصويت وحق تولي المناصب العامة. وكذلك عليهم بعض الواجبات, مثل واجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم). وتعرف موسوعة كولير الامريكية كلمة المواطنة بأنها (أكثر اشكال العضوية في جماعة سياسية اكتمالًا).
يبدو من تعريفات هذه الموسوعات الثلاث, أنه في الدولة الديمقراطية يتمتع كل من يحمل جنسية الدولة من البالغين الراشيدن, بحقوق المواطنة فيها, وهذا الوضع ليس نفسه في الدول غير الديمقراطية حيث تكون الجنسية مجرد (تابعية), لا تتوفر لمن يحملها بالضرورة حقوق المواطنة السياسية هذا أن توافرت هذه الحقوق أصلًا لأحد غير الحكام وربما للحاكم الفرد المطلق وحده.
تطرح دراسة حديثة, حول مقومات المواطنة, رؤية تتلخص فيما يلي: اولًا: المواطنة تجسيد لنوع من الشعب, يتكون من مواطنين يحترم كل فرد منهم الفرد الآخر, ويتحلون بالتسامح تجاه التنوع الذي يزخر به المجتمع. ثانيًا: من أجل تجسيد المواطنة في الواقع, على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع اعضاء في المجتمع, على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الافراد والجماعات, وعلى القانون أن يحمى وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الافراد, وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية, وعليه أيضًا ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الانصاف.
كما أن على القانون أن يمكن الافراد من أن يشاركوا بفاعلية في اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياتهم وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها. وإذا القينا نظرة على مدى اتفاق الباحثين العرب تجاه فهم مصطلح المواطنة ودقته في اللغة العربية للتعبير عن مصطلح المواطنة في دائرة الحضارة الغربية, فإننا نجد من يؤصل (المصطلح العربي) ويوظفه ليجعله معبرًا خير تعبير عن مفهوم المواطنة في العصر الحديث, وبين من يعتقد ان الترجمة العربية تثير اشكاليات, حيث يقول هيثم مناع أن أول رجاء (هو أن نضع جانبًا المعنى اللغوي العربي التقليدي) وعلى عكس هيثم مناع فإن اغلبية الباحثين والمفكرين العرب لا يرون القصور الذي يراه في ترجمة مصطلح Citizenship بكلمة المواطنة في اللغة العربية. ونجدهم يعبرون به أحسن تعبير عن مضمون Citizenship, فعناوين كتب مهمة مثل كتاب خالد محمد خالد (مواطنون لا رعايا) وكتاب فهمي هويدي (مواطنون لا ذميون) تشير إلى أن كلمة المواطنة التي اختارها العرب لترجمة هذا المصطلح نجحت في إيصال المعنى. وجعلت الكتاب يقرأ من عنوانه, وكان استخدامها مقرونًا بالسعي إلى المساواة والمطالبة بالعدل والانصاف وممارسة المشاركة السياسية بالنسبة لجميع من يحمل جنسية الدولة.
من هنا فإن الترجمة العربية لمصطلح Citizenship بالمواطنة يمكن اعتبارها ترجمة مقبولة وموفقة حيث رأى فيها الباحثون والمفكرون العرب تأصيلًا للمفهوم وتقريبًا له من ذهن الانسان العربي, وربطه بفكرة الوطنية ذات الأهمية المركزية في العمل المشترك بين جميع المواطنين. ويتضح هذا الفهم الايجابي لمدلول المواطنة من استخدام عدد من الكتاب منهم برهان غليون وعبدالكريم غلاب ووليم سليمان قلاده وغيرهم كثيرون لمبدأ المواطنة وسعيهم لتوظيفه من اجل تطوير الحياة السياسية العربية وصولًا إلى نظم حكم ديمقراطية. ويتضح من عرضنا السابق أن مبدأ المواطنة مفهوم تاريخي شامل ومعقد له أبعاد عديدة ومتنوعة يتأثر بالتطور السياسي والاجتماعي وبعقائد المجتمعات وبقيم الحضارات, ومن هنا يصعب وجود تعريف جامع مانع له, ولكن بالرغم من صعوبة تعريف مبدأ المواطنة, ألا أن ذلك لا يعني بأي حال من الاحوال أن مصطلح المواطنة يمكن استخدامه دون دلالة ملزمة.
إن مصطلح المواطنة مثله مثل مفهوم الديمقراطية المعاصرة والدستور الديمقراطي اللذين يمتان بصلات وثيقة له, مفهوم يتطلب وجوده اقرار مبادىء والتزام بمؤسسات وتوظيف ادوات وآليات, تضمن تطبيقه على أرض الواقع. وإذا كان من المقبول أن تكون هناك بعض المرونة في التعبير عن هذه المتطلبات -من دولة إلى آخرى ومن زمن إلى آخر- من أجل الأخذ في الاعتبار قيم الحضارات وعقائد المجتمعات وتجربة الدول السياسية والتدرج في التطبيق, إلا أن تلك المرونة لا يجوز أن تصل إلى حد الاخلال بمتطلبات مراعاة مبدأ المواطنة كما استقر في الفكر السياسي الديمقراطي المعاصر وما تم الاتفاق عليه من عناصر ومقومات مشتركة لابد من توافرها في مفهوم المواطنة. وكذلك لابد من وجود الحد الادنى من الشروط التي تسمح لنا بالقول بمراعاة مبدأ المواطنة في دولة ما من عدمه. وتشمل هذه الشروط إلى جانب الحقوق القانونية والدستورية وضمانات المشاركة السياسية الفعالة, الحد الادنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكن المواطن من التعبير عن رأيه ومصالحه بحرية.
لعل القاسم المشترك -في وقتنا الحاضر- المعبر عن وجود قناعة فكرية, وقبول نفسي, والتزام سياسي بمبدأ المواطنة في بلد ما, يتمثل في التوافق المجتمعي على عقد اجتماعي يتم بمقتضاه اعتبار المواطنة وليس أي شيء آخر عداها هي مصدر الحقوق ومناط الواجبات بالنسبة لكل من يحمل جنسية الدولة دون تمييز ديني أو عرقي أو بسبب الذكورة والأنوثة, ومن ثم تجسيد ذلك التوافق في دستور ديمقراطي. وجدير بالتأكيد ان الدستور الديمقراطي دستور مختلف عن دساتير المنحة من حيث أنه يجب أن يرتكز على خمسة مبادىء ديمقراطية عامة: أولها: لا سيادة لفرد ولا لقلة على الشعب, والشعب مصدر السلطات. ثانيها: سيطرة احكام القانون والمساواة أمامه. ثالثها: عدم الجمع بين أي من السلطة التشريعية والتنفيذية أو القضائية في يد شخص أو مؤسسة واحدة. رابعها: ضمان الحقوق والحريات العامة دستوريًا وقانونيًا وقضائيًا ومجتمعيًا, من خلال تنمية قدرة الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني على الدفاع عن الحريات العامة وحقوق الانسان. خامسها: تداول السلطة سلميًا بشكل دوري وفق انتخابات دورية عامة حرة ونزيهة تحت اشراف قضائي مستقل وشفافية عالية تحد من الفساد والافساد والتضليل في العملية الانتخابية.
جدير بالتأكيد أن الجوانب المدنية والقانونية والسياسية من حقوق المواطنة وواجباتها ليست كافية للتعبير عن مراعاة مبدأ المواطنة, هذا بالرغم من كونها ابعادًا لازمة. فإلى جانب ذلك هناك ايضًا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التي لا يمكن ممارسة مبدأ المواطنة على أرض الواقع دون توفير حد أدنى من هذه الحقوق والضمانات للمواطن حتى يكون للمواطنة معنى ويحق بموجبها انتماء المواطن وولاؤه لوطنه وتفاعله الإيجابي مع مواطنيه.
- خاص – المركز الديمقراطي العربي