مقالات

توكل كرمان في خرجتها العلمانية

بقلم : د. فريد بغداد – كاتب جزائري – دكتور في الطب البيطري – ليسانس علوم سياسية و علاقات دولية 

  • المركز الديمقراطي العربي

 

في تغريدة لها على موقع تويتر خرجت توكل كرمان الناشطة اليمنية الحائزة على جائزة نوبل للسلام على متابعيها بفكر سياسي لم يسبق أن أباحت به من قبل ، فقد صرّحت بأن دولة علمانية ديمقراطية هي الحلّ و أن لا خلاص من سطوة الكهنوت و حكم القيصر إلاّ بهما .

لقد غاب عن توكل أنّ القيصر و الكهنوت لا وجود لهما في واقعنا العربي الإسلامي و لا حتى في تراثنا الفكري الحضاري ، إنّهما لفظان يقترنان بالحراك الاجتماعي و السياسي الذي عايشته الشعوب الأوربية في نهاية عصر النهضة و بداية عصر الأنوار ،  كما أن العلمانية لا تعني فقط التساوي بين جميع المواطنين الذين يقطنون دولة معينة في جميع الحقوق المدنية و السياسية ترشحا و انتخابا ، و أن التدين لا يخول صاحبه حقا زائدا عن شركائه في الوطن ، و لعل هذا ما أرادته توكل كرمان من تصريحها ، و إن كان هذا المعنى يندرج في السياق المفاهيمي المعقّد و المتشعب للعلمانية فإنّه ليس كل شيء فيه .

إنّ العلمانية تعني أيضا إبعاد الدين عن المجتمع و جميع مناحيه الحياتية و أطره التنظيمية اجتماعيا و سياسيا و اقتصاديا و ثقافيا و هذا ما يصطدم مع الإسلام باعتباره دين الشعب اليمني في عمومه ، بل إنه يُصادم صريح القرآن في كون الإسلام بشرائعه يمس و يشمل جميع تفاصيل حياة الفرد و المجتمع و الدولة و حتى العلاقات بين الدول ، فهل كانت توكّل تدرك هذا المعنى حينما أطلقت تغريدتها ؟

قد تكون توكّل متأثرة بتجارب سابقة في هذا المجال على غرار ما حدث في أوربا مع بدايات عصر النهضة و مرورا بعصر الأنوار و انتهاء بما تحقق من دول قائمة على المواطنة تعرف استقرارا سياسيا يحكمه سلاسة في انتقال السلطة التي لا تخضع لتضارب تفاسير رجال السياسة و لا لأهواء الكهنوت و سطوتهم ، و قد يزداد تأثر توكّل حينما تشاهد أردوغان يرافع من أجل حماية مكتسبات العلمانية في بلاده ، لكن ينبغي له أن يكون تأثر مع الفارق .

فلا الخلفيات التاريخية الاجتماعية منها و السياسية التي كانت سائدة في أوربا خلال حقبة الثورة على التقاليد السلطوية الكنسية و الملكية تشبه الأوضاع في اليمن حتى تزعم توكّل أن ما ينقص التجربة السياسية اليمنية التي فشلت في انتقال اليمن نحو الدّيمقراطية هو العلمانية ، و لا ما هو حاصل بتركيا من مخاض سياسي بدأ مع سقوط الخلافة و لم ينته بمرورها نحو جمهورية ثانية قبل أقل من شهرين مع انتخاب أردوغان رئيسا للبلاد يطابق الحالة اليمنية التي لها ملابساتها و إفرازاتها المختلفة تماما عن ما يحدث في تركيا .

لماذا لا نستمد مفاهيمنا و حتى مصطلحاتنا من بيئتنا العربية و الإسلامية ؟ من المقبول جدا استعارة مصطلح الديمقراطية فهو لا يصطدم مع هويتنا الدينية و لا يناصبها العداء كما تفعل العلمانية ، صحيح أن للديمقراطية ها مفاهيم لا تحصى و لا تعد قد يختلف بعضها أو معظمها مع حضارتنا و تاريخنا و ثقافتنا ، لكن ما نحتاجه من الديمقراطية يُسوّغ استخدامها كمصطلح ، فنحن نريد منها حكم الشعب في مقابل حكم القلة أو الفرد لما لهما من مثالب و لما يعتريهما من قصور هذا إلى جانب أنّهما يتسببان في ثورة الأغلبية ضد الجماعة المتسلطة أو الفرد المستبد عند انسداد الأفق السياسي ، و لنا في تاريخنا الإسلامي في فترة الخلافة الراشدة ما يعضد ذلك و يدعمه ، فلم يحدث أن تولى خليفة من الخلفاء الأربعة إلا بعد أن تبيّن رضا الأغلبية من القبائل و قبولها لخلافته ، و لقد كانت خلافة علي بن أبي طالب مثلا لإسناد السلطة للحاكم من قبل العامة و غالبية الشعب على ما زامن تقلده لها من اضطرابات و قلاقل ، و قد حدث كل ذلك في ظل عدم وضوح رؤية فكرية لمفهوم الشورى لديهم ، إذ كان ذلك محض اجتهاد منهم يصلح لزمانهم ، و لم يدّعوا أنّ من بعدهم ملزمون به لزمانهم .

حتى الممارسة السياسية التاريخية التي تستند عليها الأمة في عمومها و مجموعها على أنها لصيقة بقيمنا و ثقافتنا و ماضينا و التي يستشرف من خلالها العديد من الجماعات و التيارات مستقبلها السياسي ؛ و نتحدث في السياق عن الخلافة الراشدة ، لم تعرف إسنادا للسلطة من زاوية أنّ من قُدِّم لها يحمل من الخصائص الدينية ما يميزه عن غيره من المسلمين و يجعله أجدر من غيره و أحقّ بها دونهم ، فهذا أبو بكر الصديق قال في خطاب استلام السلطة كما نطلق عليه بلغة العصر ما مفاده أنه تولى الخلافة و ليس بأفضل الناس .

صحيح أن منصب الخليفة لم يكن متاحا للجميع بالتساوي كما تتيحه الديمقراطية المعاصرة من الناحية النظرية طبعا ؛ فلهذا ما يبرره في تلك الحقبة ؛ و إلا فعمليا لا تخلو الدّيمقراطية الغربية من تأثيرات المال و الإعلام و جماعات المصالح و غيرها من التيارات الاجتماعية و السياسية و المالية التي توجّه مخرجاتها ، و لا ننسى أن الإسلام في زمانه كان بمثابة ثورة فكرية و اجتماعية في شبه الجزيرة العربية و حتى في بُعدها العالمي ، فمن الطبيعي و غير المستغرب أن يتولى زعامة المسلمين ثائراً مخلصا لفكرها ، بل إنّه لو حدث غير هذا لكان غير منطقيا .

إنّ الفكر السياسي للمرحلة المعاصرة من المسيرة الحضارية للأمة لا ينبغي له أن يتنكر لتراثها ، فأوربا التي كثيرا ما ننبهر بمستوى تفوق نظمها الاجتماعية و السياسية لم يتسن لها ذلك حين كانت تغط في سبات عميق قبل نهضتها الحضارية حتى انطلق مفكروها و فلاسفتها من عملية التنقيب في ميراثها الفكري و الحضاري الإغريقي و الروماني و المسيحي ، و لا ينبغي أن ننسى أن فلاسفة العقد الاجتماعي و من بعدهم فلاسفة عصر الأنوار لم يتأت لهم التوصل إلى المادة الرّمادية التي كانت بمثابة نواة النظام السياسي الأوربي إلا بعدما أزالوا الغبار عن كتابات أرسطو و بوليبيوس و توماس الإكويني ، و من هذا الخط الزمني في الحضارة الأوربية المعاصرة كان الإقلاع فهم لم ينطلقوا من الصفر .

ما ينبغي أن ندركه حقّا هو أنّ الإسلام لم يعد تلك الثورة العارمة التي اجتاحت العالم و على الرغم من القصور و حتى الانحراف الذي اعترى أجياله الفاتحة اللاحقة التي توقفت على مشارف فرنسا ، فهذا في حد ذاته عامل مساعد يجنب المسلمين من التنازع حول الشخصيات التي تتولى قيادة دولها ، إذ أنّ ثوار الإسلام لم يعد لهم مكان سوى في كتب التاريخ ، فالمكان أصبح متاحا لجميع المواطنين بالتساوي .

أما إذا كانت توكل كرمان تقصد بعلمانيتها المزعومة الاحتكام إلى شرائع القانون الوضعي و النّأي عن الشريعة الإسلامية ، فينبغي الانطلاق في مناقشة هذه الجزئية من أسس سليمة يتقبلها المنطق ، لماذا حينما يتحدث الإسلاميون عن ضرورة تطبيق الشريعة فإنهم يُتهمون بالتطرف و الغلو ؟ ، و في المقابل يخوّل العلمانيون لأنفسهم المناداة بنظام قانوني وضعي من صنع البشر ؟ ألا يعد ذلك تطرفا أيضا ؟

لقد غاب عن العلمانيين و الإسلاميين على حد سواء مسألةً في غاية الأهمية و هي أن تطبيق أي قانون لا ينبغي أن يكون على طريقة الأمر العسكري أو المرسوم السلطاني الموجه للشعب أو الرعية التي لا خيار لها إلا تنفيذ محتواه و التقيد بمضامينه ، إذ أنّ ذلك مرتبط بحركة المجتمع النفسية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و تفاعل عناصره البشرية و القيمية و الثقافية  و الحضارية ، فالشريعة حين تطبيقها في جيل الصحابة واكبها تطور مجتمع شبه الجزيرة العربية و انتقاله التدريجي من حالته الاجتماعية التي يصفها القرآن بالجاهلية إلى الإسلام ، بل إن مفكرا مثل محمد عابد الجابري في كتابه ” الدين و الدولة و تطبيق الشريعة ” يزعم أن الشريعة لم تُطبق بحذافيرها على مجتمع بأكمله في أي عصر من العصور بما في ذلك عصر رسول الإسلام ، فإذا كان ربّ البشر و هو صاحب التشريع الإسلامي قد رضي بتطبيق الشريعة خلال فترة امتدت لما بعد وفاة رسول الإسلام بما يتواءم مع حركة المجتمع و تطوّره ، و رغم ذلك اعترى تطبيقها قصور و نقص مردّه إلى طبيعة الإنسان غير المعصوم ، فكيف بالبشر يريدون فرض قانون ؛ دينياً كان أو وضعياً على بشر مثلهم ؟

لماذا دائما يستعير سياسيونا و مفكرونا مفردات غير مُجمَع عليها  تثير اللغط و لا تؤدي الغرض و تقود نحو الاستقطاب الفكري و الاصطفاف السياسي ؟  ألم يكن بوسع توكل كرمان استخدام مصطلحات تدل على المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق المدنية ترشحا و انتخابا ، و أن لا مكان لأيّ شرعية تخوّل صاحبها أن يحكم شعوب المنطقة سوى الشرعية الشعبية ، فلا الخلفية الدينية أو التاريخية أو الثورية أو غيرها من المرجعيات تبيح لصاحبها حقوقا سياسية تفوق غيره من المواطنين ممن لا يملكون تلك الخلفيات ، و لو حتّم عليها ذلك ابتداع مصطلح من عندها سوى مصطلح العلمانية .

Rate this post

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى