الحضارة والإنسان بين أبنية المدينة وعراقة الريف!
بقلم : د. عادل دشيلة – كاتب وباحث يمني
- المركز الديمقراطي العربي
أول من أطلق مفهوم الحضارة (Civilization)هو الفيلسوف العربي عبد الرحمن إبن خلدون. عرَّفها مَجمع اللغة العربيّة في القاهرة “بأنّها الرُقي الاجتماعي والأدبي في الحضر”، وهناك عدة معاني للحضارة. ميز عبد الرحمن ابن خلدون “بين العمران البدوي والعمران الحضري وجعل أجيال الحضر والبدو طبيعية في الوجود، فالبداوة أصل الحضارة، والبدو أقدم من الحضر، لأنهم يقتصرون على ممارسة الزراعة والقيام على تربية الحيوان لتحصيل ما هو ضروري لمعاشهم، أما الحضر فإن إنشغالهم بالصناعة والتجارة جعله مكسبهم أكثر من مكسب أهل البدو وأحوالهم في المعاش زائدة على الضروري منه…. ما الثقافة بالمعنى الذاتي المجرد فتطلق على مرحلة سامية من مراحل التطور الإنساني المقابلة لمرحلة التوحش والهمجية” (جيلالي بوبكر).
أما مالك بن نبي فيعتبر “الحضارة ناتج انسجام وتكامل الجهود الإنسانية مع قوانين الآفاق والتطلعات، وجملة الشروط النفسية والاجتماعية والروحية الدينية والمادية، من أجل النمو والازدهار في الجوانب الفكرية والروحية والسلوكية والاقتصادية والاجتماعية والمادية في الواقع المعاش” (جيلالي بوبكر)، كما أطلق بعض العلماء لفظ ثقافة على تنمية العقل والفكر.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقال هل يمكن أن نصف كل من سكن المدن بالمتحضر، وهل أولئك الذين ينادون بتغيير العادات والثقافات التقليدية واستبدالهما بالثقافة الغربية متحضرون؟ وهل الثقافة الغربية قامت على القيم الانسانية النبيلة أم على جثث الأبرياء المحترقة؟ وهل نحن اليوم مؤهلين لأن نصف جيلنا الحالي بالمتحضر، وما هو مفهوم الحضارة عند الجيل الحاضر؟
من وجهة نظركاتب هذه السطور، ليس كل من سكن المدينة يُمكن أن نصفه بالمتحضر وإن كان المفكر الانجليزي تويني قد ربط عامل الجغرافيا بالحضارة، إلا أن مالك بن نبي جاء وأكد أن الحضارة الإسلامية مثلا وحضارات أخرى لم يكن للعامل الجغرافي الدورالأساسي في تكوينها. معنى ذلك أن التحضر ليس مرتبطاً بكل من سكن المدن، وقد رأينا كيف تكونت الحضارة الإسلامية وكيف انتشرت مع أن من نشر هذه الحضارة لم يكونوا من ساكني المدن. لنترك، الجانب الديني ولنركز على العامل الجغرافي لأن هناك خلط بين الحضارة والجغرافيا، ولأن بعض أصحاب المدن يطلقون على كل من لم يسكن المدينة بالمتخلف. مثل هذه الأفكار ليست صحيحة. ولذلك، رأينا كيف يتطاول البعض على سكان الشعوب الفقيرة الذين يسكنون في الأرياف، ويدّعون أنهم أصحاب حضارة بينما هذه الشعوب الفقيرة متخلفة، لأنها لا تمتلك ناطحات السحاب، مع أن هذه الدول، أي الفقيرة تمتلك رصيد حضاري وثقافي يمتد لقرون من الزمن، بينما أولئك الذين يسكنون بعض المدن العربية الحديثة يتفاخرون بالمسكن، ولكنهم في الحقيقة عاجزون عن أي إنتاج فكري أو ثقافي حقيقي، ولذلك لا ينبغي أن نغتر بالجانب المادي وأن لا نركز على الجانب الجغرافي بل ينبغي التركيز على الجانب الروحي والأخلاقي والديني والقيمي، فالشخص بأخلاقه وليس بجاهه وبما يمتلك من مقومات مادية.
أما بالنسبة للحضارة الغربية الحديثة فقد قامت على الجثث والأشلاء وثروات الشعوب المُستعَمرة، وبالتالي فهي ليست حضارة حقيقية كما يروج لها بعض المثقفين من أبناء جلدتنا ، وقد أوضح ذلك علاء الدين الأعرجي تعريف الحضارة الغربية الحديثة في سطور حين قال: “نَعلَمُ أَنَّ حَضارةَ الغربِ الحديثةِ قامَتْ على أَشلاءِ مئاتِ الملايينِ من البشرِ، ابتداءً من الإبادةِ الجَمَاعيَّة لسُكَّانِ أَمريكا الأَصليِّين، إلى إبادةِ الشعوبِ المستعمَرةِ في أَفريقيا وآسيا أَو استِعبادها. والمعركةُ مُستمرَّةٌ ومُتواصلةٌ، ولكنَّها انصبَّت اليومَ، انصبابًا أَكبرَ، على الشعوبِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، على نحوٍ مُكثَّفٍ، خاصَّةً مُنذُ أَحداثِ الحادي عَشرَ من أيلولٍ/سِبتمبر 2001، بلْ مُنذُ انهيَّارِ الاتِّحادِ السوفيـتيِّ وإعلانِ مقولةِ “صراعَ الحضارات”.
وبما أن بعض الناس في منطقتنا العربية اليوم قد سكنوا المدن إلا أنهم عجزوا في تكوين حضارة جديدة لكي تكون محل فخر للأجيال القادمة، فبدلاً من تجديد الحضارات السابقة والسعي لتطوير المجتمعات العربية وبناء أوصر الأخوة والسعي لبناء الإنسان، لم نرَ من ذلك شيء على أرض الواقع، مع أن بناء أي حضارة تحتاج لربع قرن فقط، فإذا استطاع أي جيل أن يبني حضارة حقيقية في خلال ربع قرن فستكون تلك الحضارة رافداً للعلوم الإنسانية والمعرفية وملهمة للأجيال القادمة وهو ما عجز عنه جيلنا العربي الحاضر!
جاءت الحضارة الإسلامية، ومن ثم سادت القيم الإسلامية النبيلة والمثل العليا على الغرائز والشهوات، وساد العقل والمنطق. لكن اليوم، طغت الأهواء والرغبات على القيم الأخلاقية والإنسانية التي ترسخت خلال حياة الرسول. ثم تفجرت الصراعات على السلطة بين المسلمين، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. أما اليوم فيعيش المسلمون في صراعات دامية مما جعل الحضارة الإسلامية تغيب شيئا فشيئا.
نحن بحاجة اليوم لجيل يفتخر بعقيدته، وثقافته ويلتزم بمبادئ الشريعة الإسلامية من أجل الحفاظ على الحضارة الإسلامية وتطويرها بما يتناسب مع متطلبات العصر، وليس اللهث وراء الحضارة الغربية التي لم نرَ منها سِوى الأفكار والنظريات الوضعية والفلسفية القائمة على المصالح المادية، بينما أخفقت في الجانب الروحي. حيث أن هذه النظريات الغربية طغى عليها الجانب المادي مما يجعلها فاقدة حتى للقيم الانسانية التي نتشاركها نحن مع الغرب. لذلك، لا يُمكن للفلسفات الغربية أن تحل مشاكلنا.
يتفق مالك بن نبي مع كسرلنج وسنجلر في أن ظاهرة التغيير والتحول في التاريخ والانتقال من الانحطاط إلى الحضارة تعود إلى تغيير الأنفس واستشهد بالحضارة الإسلامية والمسيحية، فكل منها قامت على الإيمان والشعور بالحاجة إلى التغيير.” كما أن مالك بن نبي يوضح أن أي إنتاج حضاري يحتاج إلى هذه العناصر: الإنتاج الحضاري= إنسان+ تراب+ وقت، ويسميها ” بالعدة الدائمة”
وإذا كانت الحضارة تمثل الجانب المادي، وتمثل الثقافة الجانب المعنوي داخل أي مجتمع، فنحن بحاجة أن نقرأ تاريخ الحضارة العربية جيدا، وكيف بنى الأجداد تلك الحضارة، وما هي المرتكزات التي قامت عليها تلك الحضارات القديمة وأعني بذلك ما قبل الإسلام أو الحضارة الإسلامية، وإذا كان الإنسان كما يعبر الفلاسفة الغربيون بأنه محور الكون، وبالتالي لا بد من التركيز على الإنسان والسعي لرفاهيته، فإننا لا يمكن أن نصل إلى رفاهية الإنسان ما لم يكن هناك تغيير جذري نحوالأفضل، ولا أعني بذلك التخلي عن القيم الإسلامية التي هي الأساس في بناء مجتمع خالي من الجرائم الأخلاقية ….إلخ.