الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

أزمة بريسكت تضع بريطانيا أمام مفترق طرق

اعداد : سارة ناصح – باحثة اقتصادية – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة

  • المركز الديمقراطي العربي

 

تشهد المملكة المتحدة جدلًا متصاعدًا فى هذه الفترة بسبب الانقسام حول خروجها من الاتحاد الأوروبي، حيث تقوم الحكومة البريطانية بإجراء مفاوضات مكثفة مع البرلمان البريطاني والاتحاد الأوروبي لإعداد اتفاق يحدد كيفية وموعد خروج بريطانيا من الاتحاد ولم تنتهي المفاوضات حتى الآن.

* أبرز محاولات بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي:

أجرت المملكة المتحدة في يونيو 2016 استفتاءًا على خروجها من الاتحاد الأوروبي، حيث صوت 52% لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد، وذلك بعد أن ظلت المملكة المتحدة عضوًا به لأكثر من 40 عام. وقد نص الاتفاق أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس 2018، وبعدها أصبحت تلك القضية تُعرف اختصارًا باسم Brexit أي Britain Exit ، وتعني مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي الذي يضم 28 دولة تسمح بحرية الحركة والحياة والعمل لمواطنيها داخل الاتحاد فضلا عن تجارة هذه الدول مع بعضها.

وعقب الإعلان عن نتيجة الاستفتاء، استقال رئيس الوزراء “ديفيد كاميرون”، وحلت محله “تريزا ماى” التى تولت مسألة التفاوض على اتفاق بريكست مع الاتحاد الأوروبي، وكان أكبر تحدي يواجهها هو توحيد الجبهة الداخلية البريطانية لدعم التوصل إلى اتفاق جيد للبريكست. لكن انقسمت بريطانيا في عهدها إلى شقين الأول  يطالب بانفصال تام عن الاتحاد حتى تستعيد بريطانيا سيادتها على التجارة والهجرة. والثاني يطالب بالحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد، لذا كانت “ماي” تحاول التوسط من أجل تجنب انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق مما يؤدي إلى عواقب وخيمة على الاقتصاد البريطاني.

ولذلك عقدت “تريزا ماي” انتخابات عامة مبكرة في أبريل 2017، وتمكن حزب المحافظين الذي تتزعمه “ماي” من تحقيق فوز كبير ومهم في الانتخابات المحلية التي شهدتها مناطق واسعة من المملكة المتحدة، مستفيدًا من ضعف أداء حزب العمال المعارض خلال هذه الانتخابات. وأعلنت “ماي” في نوفمبر 2018 عن شروط اتفاق البريسكت ومن أهمها ما يلي:

1.الفترة الانتقالية: نص الاتفاق على أن تخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في مارس 2019، على أن تنتهي الفترة الانتقالية في 31 ديسمبر 2020 وسيطبق خلالها البريطانيون قوانين الاتحاد الأوروبي ويستفيدون منها. وسيكون على بريطانيا أيضًا مواصلة دفع مساهمتها المالية في الاتحاد لكن بدون أن تكون ممثلة في مؤسساته أو أن تشارك في قراراته، واتفق الجانبان على إمكانية تمديد هذه الفترة الانتقالية بموافقة كل منهما، لمدة يمكن أن تصل إلى عام أو عامين وحتى 2022 على أبعد حد.

  1. الحدود مع إيرلندا: وضع الاتفاق خطة تسمى الباكستوب لحل أزمة الحدود مع إيرلندا العضو فى الاتحاد الأوروبى، وإيرلندا الشمالية هي جزء من بريطانيا. فعلى مدار سنوات، كانت الحدود تشهد وجود عسكريًا بسبب العنف الطائفى الذى أدى إلى مقتل أكثر من 3500 شخص. لكن بعد توقيع اتفاق الجمعة الطيبة عام 1998 تم السماح بالتجارة الحرة. وكان هذا ممكنا لأن إيرلندا وبريطانيا عضوتان بالاتحاد الأوروبى. لكن بعد تصويت بريطانيا بالخروج، ظهرت مشكلة الحدود مرة أخرى، لذا اقترحت “ماي” فى مسودة اتفاقها إبقاء إيرلندا الشمالية وباقى المملكة المتحدة فى اتحاد الجمارك الأوروبية حتى تصبح هناك اتفاقية تجارية لا تتطلب قيودا على الحدود الإيرلندية.
  2. تسوية مالية: تعهدت بريطانيا أن تحترم التزاماتها التي قطعتها في إطار الميزانية الجارية 2014-2020، ولم يحدد الاتفاق أي مبالغ مالية لهذه الفاتورة ولا طريقة حسابها، لكن الحكومة البريطانية قدرت قيمة تلك الفاتورة ما بين 40 و45 مليار يورو، ومن المتوقع أن يزداد إذا تم تأجيل البريسكت لبعد 2020.

وعقب إعلان “ماي” على شروط الاتفاق، تم عقد قمة أوروبية استثنائية لتوقيع اتفاق البريكست في 25 نوفمبر 2018. وتم تأجيل تصويت البرلمان على الاتفاق في ديسمبر 2018 ، وأعلنت رئيسة الوزراء البريطانية حينذاك أن بعض بنود الاتفاق لا تزال تثير مخاوف لدى النواب البريطانيين خاصة مسألة الحدود ما بين إقليم إيرلندا الشمالية وجمهورية إيرلندا، وهذا ما سيدفعها للعودة إلى بروكسيل مجددا للحصول على ضمانات أكبر من طرف الاتحاد الأوروبي.

وبعد مفاوضات مكثفة بين “ماي” والاتحاد الأوروبي أعلنت “ماي” في نوفمبر 2018، أنها توصلت  لاتفاق مع المفوضية الأوروبية، لعمل اتفاق سياسي يحدد العلاقات المستقبلية بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي بعد الخروج من الاتحاد، في الوقت نفسه أعلن رئيس المجلس الأوروبي “دونالد توسك”، أن فريقي التفاوض من الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، توصلا إلى اتفاق حول علاقتهما بعد بريكست في شكل مشروع إعلان سياسي، وهو ما يؤكد تصريحات “ماي”.

وعقب عرض اتفاق البريكست الذي أعدته “ماي” على البرلمان البريطاني في يناير 2019 ، صوت البرلمان بأغلبية رافضة لاتفاق بواقع 432 نائبًا، وفي اليوم نفسه دعم 325 نائبا بقاء الحكومة وتجديد الثقة بها، وطالب 306 نائب سحب الثقة منها.

وعلى إثر ذلك أجرت “ماي” مفاوضات أخرى مع البرلمان والاتحاد الأوروبي حول تعديل اتفاق البريكست، وطلبت “ماي” من الاتحاد الأوروبي في 20 مارس 2019 أي قبل 9 أيام من الخروج الرسمي، تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد لمدة ثلاثة أشهر، ليكون موعد الخروج 30 يونيو.

وعند عرض “ماي” للاتفاق البريكست المعدل رفض البرلمان البريطاني للمرة الثالثة خطتها، وفي الأول من أبريل 2019، الخاصة بخروج من الاتحاد الأوروبي، لذا تعهدت “ماي” في مايو 2019 بتحديد جدول زمني لانتخاب من سيخلفها وذلك بعد مطالبة كبار أعضاء حزب المحافظين بتحديد موعد رحيلها من منصبها.

وفي يوليو 2019 أصبح “بوريس جونسون” رئيس وزراء بريطانيا الجديد والمسؤول عن التفاوض على اتفاق بريكست وأكد مرارا وتكرارا أن بريطانيا ستغادر الاتحاد الأوروبي باتفاق أو دون اتفاق في 31 أكتوبر، وعقب توليه منصب رئيس الوزراء اقترح “جونسون” إجراء انتخابات عامة في شهر أكتوبر المقبل لكن البرلمان رفض ذلك الاقتراح، وفي يوم 4 سبتمبر قام البرلمان بتمرير قانون يمنع الحكومة البريطانية من الخروج من الاتحاد الأوروبي دون التوصل إلى اتفاق، ويُمهل القانون، “جونسون” مدة حتى 19 من أكتوبر، للتوصل إلى اتفاق للخروج من الاتحاد الأوروبي ثم يعرضه على البرلمان، وينتظر نتيجة التصويت.

*  الاقتصاد البريطاني لم يصمد أمام أزمة البريكست:

تسببت حالة عدم اليقين التي تشهدها عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في أضرار كبيرة لاقتصاد المملكة المتحدة، وفيما يلي توضيح لأبرز الآثار السلبية الناتجة عن البريكست:

  1. ارتفاع احتمالية حدوث ركود اقتصادي: لا يزال العالم يتحدث عن ركود محتمل يضرب الاقتصاد العالم في وقت قريب بسبب تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، لكن مع التداعيات السلبية لأزمة البريكست قد يكون الركود الاقتصادي حتميًا في بريطانيا، حيث حذر مكتب إدارة الموارد المالية من  مغادرة الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، لأنها قد تسبب في انخفاض النمو الاقتصادي في المملكة المتحدة بنسبة 2 %بحلول نهاية عام 2020، وتتسبب في خسارة 30 مليار جنيه إسترليني سنوياً في المالية العامة، وهو ما سيدخل بريطانيا في حالة ركود مؤكدة.
  2. تراجع قيمة الجنيه الاسترليني: يُعاني الجنيه الاسترليني من حالة اضطراب نتيجة لأزمة بريكست ،ويعتبر الجنيه مؤشراً يدلل على صحة الاقتصاد البريطاني أكثر من بورصة لندن المليئة بالشركات المتعددة الجنسية، حيث انخفض الجنيه الإسترليني في تعاملات الأسبوع الماضي إلى أقل من 1.20 دولار وهى المرة الأولى منذ نحو ثلاث سنوات، وقد أدى ذلك إلى تراجع قيمة الجنيه الاسترليني إلى ارتفاع تكلفة الواردات مما قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار مما ينتج عنه تزايد في معدل التضخم.
  3. هروب رؤوس الأموال إلى الخارج: تضغط البيئة البريطانية الغير مستقرة على القرارات الاستثمارية للعديد من الشركات والبنوك التي تعمل داخل بريطانيا لذا أنشأت العديد من البنوك مكاتب جديدة في ألمانيا وفرنسا وإيرلندا،ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى لحماية أعمالها الإقليمية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كما تقوم شركات مثل “سوني” و”بانسونيك” بنقل مقراتها إلى هولندا، كما ألغت “نيسان” خططًا لبناء مصنع جديد في المملكة المتحدة، وأغلقت المجموعة الهندسية الألمانية “شافلر” اثنين من مصانعها الثلاثة في بريطانيا.

* السيناريوهات المتوقعة لأزمة بريسكت:

يبدو المشهد السياسي والاقتصادي البريطاني معقد ومتشعب في ظل صراع واضح بين البرلمان والحكومة، لذا فأن الخيارات أمام حكومة “جونسون” أصبحت محدودة جدًا، وفيما يلى السيناريوهات المحتملة لتصرفات جونسون لحل أزمة البريكست:

  1. تحدي البرلمان والقانون والخروج بدون اتفاق في 31 أكتوبر: وافق البرلمان على تشريع يمنع بريطانيا من الخروج من الاتحاد الأوروبي في أكتوبر إلا إذا أبُرم اتفاق، ويعني هذا أن رئيس الوزراء ملزم قانونيًا بطلب تمديد تاريخ الخروج من الاتحاد الأوروبي في حالة عدم التوصل إلى اتفاق، وهو ما يرفضه “جونسون” الذي صرح في وقت سابق بأن بريطانيا ستخرج من الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر مهما كانت التكلفة.
  2. إبرام اتفاق جديد: أكد “جونسون” أنه سيحصل على اتفاق للبريسكت خلال القمة الأوروبية المقرر عقدها في أكتوبر المقبل ثم يحاول أن يقنع البرلمان بهذا الاتفاق وأن وافق عليه ستخرج بريطانيا من الاتحاد باتفاق في 31 أكتوبر المقبل، لكن الاتحاد الاوروبي أشار أن الحكومة البريطانية لم تبذل جهدًا كافيًا يمكنها من التوصل إلى اتفاق جيد للبريسكت خلال القمة المقبلة.

3.تقديم الاستقالة: أعلن “جونسون” أنه لن يقوم بطلب تمديد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإن كان هذا هو الخيار الوحيد أمامه فسيقوم بتقديم استقالته مثلما فعلت رئيسة الوزراء السابقة “تريزا ماي”.

ختاما، كل الدلائل تشير إلى أن بريطانيا ستقدم طلب إلى الاتحاد الأوروبي لتمديد خروجها من الاتحاد إلى يناير 2020، بعض النظر عن من سيكون رئيس الحكومة في ذلك الوقت، حتى تتجنب الآثار السلبية التي سيتعرض لها الاقتصاد في حالة الخروج دون اتفاق. ومن المتوقع أن يوافق الاتحاد على طلب التمديد حيث صرح رئيس البرلمان الأوروبي “ديقيد ساسولي” أن البرلمان منفتح على فكرة تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد.

وفي حالة إصرار جونسون على عدم طلب تأجيل خروج بريطانيا من الاتحاد فمن المتوقع أن يقدم استقالته، وقد يتولى رئيس حزب العمال “جيرمي كوربن”، أو أي شخصية أخرى تحظى بثقة أغلبية الأعضاء في البرلمان مثل عضو المحافظين “كينيث كلارك”، رئاسة الحكومة وقد يجري بعدها انتخابات عامة، ربما في نوفمبر أو في ديسمبر على أقصى تقدير.

ويستمر الشد والجذب بين تيارين رئيسيين، تيار يرى أنه يجب احترام رغبة الناخب البريطاني عندما صوت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، سواء كان الخروج باتفاق أو دون اتفاق، وتيار آخر يرى أنه يجب التريث حتى يتم وضع اتفاق جديد لا يؤثر سلبًا على اقتصاد بريطانيا.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى