الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

اوكرانيا واعادة التوازن الروسي

بقلم : محسن الكومي – المركز الديمقراطي العربي

 

لم تكن أزمة أوكرانيا فريدة من نوعها في النزاعات الدولية ولن تكون الأخيرة فما دامت مطامع الدول الكبرى تتنامى ، فستظهر أوكرانيا جديدة في مناطق أخرى  ، وعلى أثر ذلك ربما تضيع معها حدود، وتندمج دول وتتلاشى أمم ،وتضيع اقتصاديات ،والمتأمل للموقف الأن على الأرض في أوكرانيا ليدرك أن هناك مخالب قوية لبعض الدول تبسطها في مخيلتها ، فتخفيها عن أعين المجتمع الدولي وتتظاهر بالحياد ، ولما يحاول أحد اللاعبين الدوليين الاقتراب من محط أنظار تلك المخالب تظهر الدول القوية بحدة تلك المخالب ، متخلية عن الحياد الذي رسمته لسنوات طوال وهذا ما نلحظه في الموقف الروسي فالعين على أوكرانيا والدول المتفككة منها سابقا ، ولما حاولت الأخيرة التقارب مع حلف النيتو والاتحاد الأوروبي ظهرت النوايا الروسية الحقيقية طامعة في تأمين حدودها ولو على حساب الانسانية ، وحتى يمكننا شرح تلك المخالب ومخيلات الدول بعيدا عن أزمة أوكرانيا تحديدا  ، فما هي طرق واساليب روسيا في إعادة التوازن الدولي وإعادة التموضع ؟ وهذا ما سيتم بيانه .

لعبة الاقطاب السياسية:

تشكل النظام الدولي السياسي قبل الحرب العالمية الأولى معلنا عن مظهر من مظاهر هذه الحقبة الزمنية ليشهد تعدد القوى والأقطاب المؤثرة في العالم ، ومع قرب انتهاء الحرب العالمية الثانية والذي خسرت فيها اوكرانيا حوالي من 5 الى 8 مليون مدني إضافة إلى 1.4 مليون جندي مقاتل أوكراني تحت مظلة الأمبراطورية السوفيتية كونها أحد مكوناته الأساسية  وبانتهاء هذه الحرب تحول العالم من متعدد الأقطاب إلى ثنائي القطبية  وببدء الحرب الباردة اتجهت بوصلة الدول إلى قطبي القوى في العالم الولايات المتحدة الأمريكية كقطب أول والاتحاد السوفيتي كقطب ثاني،  ليستمر الحال على هذا دون أن تتوقف البوصلة إلا على هذين القطبين حتى أتى العام 1991 ليسقط الاتحاد السوفيتي من حسابات البوصلة السياسية نتيجة لتفككه السريع ، والتي كانت أوكرانيا إحدى نتائج هذا التفكك حيث بادر البرلماني الأوكراني في عام 1990 وأعلن استقلال الدولة ،  ليستقر مؤشر القوى معلنا تحول العالم  من ثنائي القطبية إلى أحادي القطبية  مشيرا  فقط إلى “الولايات المتحدة الأمريكية”

لم تستمر حالة التفكك التي مُنِي الاتحاد السوفيتي طويلا ليأتى عام  1999معلنا عن  ظهور بوتين كرئيس وزراء ثم عام 2000 ليشهد بدء بوتين رئيسا لروسيا الاتحادية ، راسما في مخيلته حلما كبيرا وهو إعادة التوازن واسترجاع ما تم فقده سابقا من دول متفككة عن الولاية الروسية الكبيرة ، وتعتبر روسيا من الدول القلائل التي استطاعت في فترة وجيزة اعادة توازنها الدولي بعد التفكك  ، وقد ساعدها في ذلك عدة عوامل :

  • عامل الإرث الجغرافي الشاسع إذ ورثت روسيا الإتحادية 85% من اراضي الاتحاد السوفيتي وقد قدرت المساحة بما يزيد عن 17 مليون كم2 وتعتبر أكبر دول العالم مساحة
  • التقسيم الاداري الواسع والذي يتكون من 21 جمهورية و 6 أقاليم و 49 مقاطعة .
  • عامل القيادة القوية حيث شكل بوتين في ذلك دورا هاما يصعب تغافله من حيث الاهتمام بالاقتصاد والتسليح والعمل على رسم استراتيجيات إعادة التوزيع السكاني على كافة مناطق الدولة إذ يقدر عدد السكان بحوالي 140 مليون نسمة في عام 2000 وهو عدد قليل نسبة إلى مساحة الدولة الهائلة .

إعادة التوازن الروسي :

لم تكن روسيا لتنهض مرة أخرى إلا بعد تفاهمات سياسية وتناغم دولي محدثة توازنا لها بالمنطقة ولهذا وفي هذا السياق يبرز جانبان :

  • الطرق التي اتخذتها روسيا لإعادة التوازن
  • مسارح إعادة التوازن

أولا : الطرق التي اتخذتها روسيا لإعادة التوازن : 

لم تكن المواقف الندية والخشنة في التعامل الروسي الأمريكي مسارا روسيا  لإعادة التموضع وإنما تدرجت روسيا في رسم خطة توازنها  بالعالم ، فلم تبدأ روسيا في طريقها الذي رسمه بوتين من أول يوم له بالحكم بالمواقف والتنافسية للغريم الأوحد بل اتخذت روسيا  مسارات عدة حتى تصل إلى ما ترنو إليه في إعادة التموضع ورسم خطة توازن بالمنطقة وقد بأت تتماشى مع الوضع العالمي شيئا فشيئا ورسمت لذلك عدة خطوات ومنها :

  • مسايرة الغريم الأوحد ” الولايات المتحدة الامريكية” في بعض الملفات : لم يكن الالتقاء والمسايرة بين الغريمين إلا تحقيقا للمصالح فالتقت نظرة الفريقين حول بعض الملفات ،  مثل ملف الارهاب والذي اصبح نغمة يتغنى بها كلاهما للانقضاض على الشرق الأوسط ” رغم انكارنا التام”  لأي عمل إجرامي لهجمات ضد الانسانية  أيا كان جنس فاعلها أو معتقد ضحاياها ، ولقد سعى الغريمان تحقيق مصالحه بالشرق الأوسط  من خلال التعاضد الظاهري حيال هذه النغمة المستحدثة  مثلا روسيا سعت لإنهاء مشكلة  مقربتها والتي أودت بقواها واقتصادها لفترات طويلة متمثلة في الشيشان وافغانستان مثلا .
  • فتح مسارات عمل وتحالفات دولية : قائمة على المكاسب المشتركة فوجدت ضالتها في الصين والهند حيث رغبة الأولى في التمدد العالمي في مجال الاقتصاد ومحاولة تقديم بديل اقتصادي قوي يمتاز بالانتشار مع رخص التكلفة لتظهر متفوقة  على الولايات المتحدة الأمريكية في مثل هذه الاقتصاديات ، فالعملاق الصيني يتحسس  طريقه للدخول السياسي والعسكري والأمني إلى الشرق الأوسط، بعدما عزز حضوره الاقتصادي على مدار العقود السابقة بالمبادلات التجارية مع دول المنطقة كلها بدون استثناء. ، وأما الثاني ” الهند” فهي ساعية لإعادة قوتها التي فقدتها فبدأت في المجال التقني والتكنولوجي  كسلاح قوي تحتاجها لإعادة بروزها بالمنطقة وتمركزها حول شبه القارة الهندية .
  • اظهار القوة : تعمدت روسيا إلى اظهار قوتها في ملفات عدة  وخاصة عند تنامي شعورها بالخطر، فالوجود العسكري للولايات المتحدة الأمريكية في مناطق قريبة من روسيا، مثل الشرق الأوسط وآسيا ومنطقة القوقاز، أدى ذلك لضرورة تغيير السياسات الروسية أيضاً، وإعادة هيكلة العلاقات مع الدول التي ترتبط معها بروابط تاريخية.كي تستطيع من خلالها إعادة تموضعها وتوازنها العالمي  فلم تسلم منطقة الشرق الأوسط من تدخلاتها السافرة والتي كان بغيتها هي سرعة كسب الأرض ولو على حساب الانسانية فما كان من منطقة يسهل عليها العمل على أرضها من منطقة الشرق الأوسط  ، وتتركز اسباب الاتجاه نحو الشرق الأوسط فيما يلي :
  • البعد الجيوسياسي وتداخلات المنطقة جغرافيا حيث التواجد الأمريكي المتنامي في المنطقة بما يهدد مصالح وحدود روسيا المترامية الاطراف
  • الحرص الاقتصادي التام فأهداف روسيا الاقتصادية من الشرق الأوسط تتركز في الرغبة التامة في ضمان عدم العبث بمبيعاتها من النفط والغاز الطبيعي في أوروبا .
  • سهولة إظهار القوة في هذه المنطقة وخاصة فيما بعد العام 2011 وتقلبات الأوضاع بالشرق الأوسط  .

ولقد لجأت روسيا إلى نموذجين من التدخل بمنطقة الشرق الأوسط

  • التدخل التام وهي أن تبرز بالدعم والمشاركة عسكريا بوجه مكشوف ولم يتم ذلك إلا في المناطق التي تعتقد أنها من مكاسبها  في جولات سابقة ومن أمثلة ذلك ” شبه جزيرة القرم ، أوكرانيا ، سوريا ، الدول المتفككة من الاتحاد السوفيتي “
  • التدخل الحذر وهي أن تلع ب دورا مساندا لأحد الأطراف في مكان معين يتسم هذا المكان  بقربه من المصالح والنفوذ الأمريكي فيكون التدخل على حذر  ولا يعدو سوى علاقات اقتصادية وصفات سلاح ، وتلاعب بالبنية الأساسية للحكم في تلك الدول .

ثانيا مسارح إعادة التوازن :

  • الازمة السورية :

حيث تعد سوريا أول مسرح لإعادة التوازن الروسي  ،حيث استطاعت روسيا أن تنفذ على أرضها عملياتها لتظهر للعالم بمظهر القوة من جديد معلنة عن تمسكها بالدعم التام للنظام السوري  لتكمل قواعدها وتبسط نفوذها والتي بدأت سابقا بتأجير قاعدة طرطوس البحرية من النظام السوري في فترة سبعينيات القرن الماضي ، حيث تعتبر “طرطوس” أخر ما تبقى لها بالشرق الأوسط من قواعد عسكرية . وأما على الجانب الاقتصادي فتعتبر العلاقات الاقتصادية الروسية من أنجح العلاقات التي كونتها روسيا بالمنطقة ، فتاريخيا يأتي مشروع سد الفرات الذي حصلت سوريا بموجبه على قرض بمبلغ 120مليون روبل عام 1966م، وما تبعه من مشاريع لبناء مصانع مختلفة كمصنع لإنتاج الأنابيب من الحديد والصلب، ومصنع لإنتاج قضبان وصفائح الألومنيوم، ومصانع السكر والنسيج والإطارات وغيرها، وتبعا لاتفاقيات التعاون الاقتصادي المشترك والموقعة في العام 72  والت أظهرت التعهد الروسي بتتقديم قرض قدره 25مليون روبل، لتمويل مشاريع النفط،والامداد بالقطع الروسية  ، ومن خلال ما تقدم يتضح لماذا كانت سوريا أول وأسهل مسرحا تلعب عليه روسيا لإعادة إظهار القوة بالمنطقة ؟

  • صفقات السلاح :

يعتبر السلاح ليس موردا اقتصاديا للدول المصدرة له وفقط بل يعد من علامات إعادة التموضع والتوازن بالمناطق وسرا من أسرار قوة وأركان الدول ولذا كان مسرح السلاح العالمي من علامات بروز روسيا دوليا  . ففي التصنيف الدولي لمصدري السلاح بالعالم تعتبر روسيا من ثاني أكبر الدول تصديرا للسلاح ، وتعتبر شركة “روس أوربون اكسبورت ” هي الشركة الروسية الوحيدة والتي تحتكر صفقات السلاح ويوقع بوتين بنفسه نيابة عنها في تلك الصفقات .

  • العقود الاقتصادية :

النفط والغاز باعتبارهما من أقوى دعائم الاقتصاد لأي دولة  منتجة مما مكن روسيا باعتبارها محركا رئيسا في سوق النفط العالمي من إعادة التوازن بالعالم ورسم خطة تموضع جديدة ومن خلاله استطاعت أن ترسم لها شكلا مغايرا عن ولايات السوفيت المتفككة كما ينظر إليها البعض إبان تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991  وباعتبارها مراقب في منظمة الأوبك فقد حاولت أن ترسم لنفسها هيبة وحلة جديدة في وقت قصير .

خسائر ومكاسب:

في ظل الخسائر الاقتصادية التي تنتظر الروس ، ومدى تنامي نظام العقوبات الدولية على كافة الأصعدة ومع تواصل الدعم المالي والتقني الظاهر من دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ، والذي لا يعدو إلا دعما دون الانجرار في تحركات  لقوات عسكرية نحو حرب كما يتصورها بعض المحللين ، تتركز عدة توقعات في الوضع الروسي الاوكراني ومنها  :

  • لن ينتهي الأمر إلى حرب نووية كما يتصور البعض فروسيا تدخل بحذر بالغ ولها داخل أوكرانيا بعض المناطق الموالية لها وهذا من شأنه أن يحدث استقرار في الداخل الأوكراني مهما تمادى التدخل الروسي هناك .
  • لن تكون هناك حربا عالمية ثالثة كما تصورها البعض فكل له حد في الدعم أو الإمداد وقد بدا ذلك من خلال نقاشات وحوارات وتعليقات الساسة في العالم الغربي ، فمن وعد بالوقفة القوية ضد روسيا حول وعوده إلى مؤتمرات ودعم محدود ، وهذا نلحظه في التسلسل الزمني لمحاولات ضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي أو حلف النيتو .
  • استمرار ضعف الموقف الأمريكي والأوروبي حيال الأزمة عكس ما كان متوقعا من التدخل السريع وبسط قواتهما في منطقة أوكرانيا ومحاولة زعزعة الأمن الروسي وهذا لم يحدث حتى الأن .وقد ظهر بايدن وفريقه بصورة ضعيفة في تعامله مع الأزمة .
  • في تصوري الشخصي أن هذه الأزمة أعادت رسم صورة جديدة لترامب وحزبه في الداخل الأمريكي وذلك من خلال تدخله بالخطابات من بين فينة وأخرى ليظهر مكانته في أنه كان كفيلا بروسيا معتبرا أن الموقف الروسي كان يمكن تخطيه لو أنه كان هناك عبقرية في التعامل مع بوتين تتماشى مع عبقرية الأخير” حسب وصفه” ، ولذلك فقد تكون هذه الأزمة ليست إعادة توازن لروسيا فقط بل إعادة تموضع وتوازن لترامب شخصيا في الداخل الأمريكي .
  • ربما تكون الأزمة باعثا على إظهار المطامع الهندية والصينية حول العالم   فمثلا الهند تسعى لاستكمال مسيرتها في بسط النفوذ من جديد بالقارة الهندية  وعلى الصعيد الآخر نجد دوافع للصين في احتلال تايوان وبسط نفوذها هناك  ، وذلك تتمة الفصل الروسي الأوكراني ونتائج هذا المسلسل لو استمر بهذا النسق الدرامي .

أين إعادة التوازن العربي ؟؟

وفي ظل هذه التجاذبات الدولية وما يمر به العالم حاليا ينبغي للعالم العربي أن يجتمع ليعلن عن نفسه كمؤثر في الموقف الدولي وخاصة أنه يمتلك المزيد من قوى التأثير ،وله بصمات واضحة في الخارطة السياسية والاقتصادية إن أراد ، فما شاهده العالم من تمييز عنصري في اللجوء و الهجرة نحو أوروبا جراء هذه الحرب وظهور علامات  التفضيل للجنس والعرق والدين ولون البشرة والعين ، ليلقي بالتبعة على العالم العربي أن يظل مؤثرا وأن يستجمع قوته ويظهر قوى تأثيره بصفة جماعية لا بصورة فردية .

4.8/5 - (5 أصوات)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى