الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

الدولة من أعماق الحضارات

بقلم : د. عقل صلاح – كاتب وباحث فلسطيني مختص بالحركات الأيديولوجية.

  • المركز الديمقراطي العربي

 

لم ينعم التاريخ الإنساني في معظمه بوجود الدول. فالسجل البشري من قديم الأزل يظهر تتبعات وتعقبات الجنس البشري منذ 40 ألف عام، غير أن الدولة بمدركاتها الحقيقية لم تظهر إلا في بلاد الرافدين في العراق فيما يقرب من 3 آلاف عام قبل الميلاد. لفت مثل هذا التغير الدراماتيكي الانتباه إلى النظريات الاجتماعية الكلاسيكية. فالليبرالية والماركسية على حد سواء تمتلكان رؤى للتطور التدريجي لجذور الدولة وأصلها. فهما تؤكدان على أن أسلوب الحياة البرية عفا عليه الزمن، وتم استبداله تبعا لذلك بالاختراع الذي حدث آنذاك، ألا وهو الزراعة، والذي أطلق عليه “ثورة العصر الحجري”، ونتج عن ذلك زيادة في التشابك الاجتماعي الذي يصاحبه أحيانًا تقدم في شكل التنظيم السياسي من الجماعة إلى القبيلة. تمخض عن كل هذا خلق ما يسمى بالدولة.

ترى الليبرالية ظهور الدولة من منطلق المفردات الوظيفية، فهي ترى أن الدولة عبارة عن خلق عضو لاستكمال الأغراض العامة. على النقيض من ذلك، ترى الماركسية أن الدولة ما هي إلا نتاج للطبقة الاجتماعية الأولى المسجلة عبر التاريخ، تواجه الماركسية بذلك القضية المفاهيمية التي تتعلق بماهية اليرقة في البرعم في مجتمع بدائي قائم على المساواة (أي أن هذا المجتمع لم ينضج بعد)، وما تستطيع أن تسمح به من أجل ميلاد الطبقة الاجتماعية في المكانة الأولى. أو بخلاف النظريات الاجتماعية هذه، أفرزت النظرية الاجتماعية الألمانية تعليلًا بسيطًا وصريحًا لظهور الدولة، تلك النظرية التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالواقعية. وفقًا لوجهة النظر هذه، وأفضل من عبروا عنها راتزل، وأوبنهايمر، وجمبلوويكز، وثورنوالد وكانت موجودة أيضًا عند ماكس ويبر وايبرهارد، وهم يرون أن الدولة نتجت عن الغزو العسكري، الذي جاء غالبًا من الزراعيين الذين استوطنوا في الأرض، والبدو الذين يقطنون الأماكن النائية.

لم تلق أي نظرية من هذه النظريات الدعم الكامل من العلم الحديث، بالرغم من أن كل نظرية من هذه النظريات لديها رؤى يمكن استخدامها من حين لآخر. لقد أحرز العلم الحديث تقدمًا رئيسيًا في وضع تصور لنشأة الدولة. ولا يسعنا إلا أن نقر بأن التوصل إلى اتفاق عام بشأن العمليات الاجتماعية التي تنخرط في تشكيل الدولة لم تكن وشيكة الظهور على ما يبدو. يرجع هذا ببساطة إلى أنه يوجد – في واقع الأمر – حالات قليلة جداً من البدائية، وهذا غير تقليدي، وتهدف عملية تنمية الدولة من أجل السماح بوضع قواعد عامة راسخة للدولة.

وبالفعل نشأت الدولة في الأصل على هذه الشاكلة في أمريكا الوسطى، وبلاد الرافدين، بدون أي إمكانية للاتصال. الشيء نفسه – على ما يبدو – حدث في أوائل الدول في كل من وادي نهر السند (يقع في الهند ويمر في الباكستان)، الصين، والبيرو. لكن، ربما كان يوجد نوع من أنواع التعميم لمصر، وقد أثر هذا التعميم في معظم العمليات التي تناولها الدارسون في مناقشة أصول ونشأة الدولة. يعني هذا أن تلك الدول لم يكن بها عمليات أصلية بل محاكاة.

تمثلت الرسالة المخبأة تحت عباءة نظرية تطور الدولة في أن الشعوب البدائية بحاجة ماسة إلى الدولة. ذلك هو مذهب الغائية، الذي أسقطه العلم الحديث إسقاطًا كاملًا. كما روج كتاب “اقتصاد العصر الحجري”، للأنثروبولوجي الأمريكي مارشال ساهلين لفكرة الاكتشاف الأنثروبولوجي العام الذي مفاده أن الحياة البرية لم تكن بحاجة إلى الزراعة، ناهيك عن الدولة. بضع ساعات عمل فحسب كل يوم، هو كل ما كان يحتاجه الأفراد الذين يحيون حياة البرية والصيد، على الرغم من أنهم كانوا في حاجة لوقت كبير يخصصونه للحفاظ على الاتصالات الإقليمية، تلك الاتصالات التي تعتبر تأمينًا وضمانًا لهم من الأوقات البيئية الصعبة وغدر الطبيعة. كان هؤلاء الأفراد ينعمون بالكثير من الوقت والثراء. كثير من هؤلاء الأفراد – وتحديداً الهنود الأمريكيين الشماليين – عرفوا الزراعة، لكنهم لم يتخذوها كمهنة طوال الوقت، ولا عجب في ذلك لأنها كانت ستحرمهم من أوقات فراغهم، وكانت ستحول حياتهم إلى حياة شاقة. غير أن بعض البريين اختاروا الممارسات الزراعية الأكثر استقرارًا، وربما اضطروا إلى فعل ذلك لتزايد الأفراد الذين يمتهنون المهن البرية القائمة على صيد الحيوانات. غير أنه لا يوجد توافق تام بين اختراع أو اختيار الزراعة وأصل الدولة، فالزراعيون البدائيون يتزايدون، في الوقت الذي لا يزداد فيه عدد الدول. قد لا تكون القضية أن نعرف ما هي الأمور التي تزداد تشابكاً؟ بالتأكيد، يوجد قياس للنسق الليبرالي بمقدار التشابك الذي سوف يشجع على التخصيص. هذا التخصيص بين الذين يحيون الحياة البرية معروف، وأكثر تحديدًا للتعامل مع الجماعات الأخرى، كما أنه شائع نسبيًا بين القبائل إما لأغراض الحرب أو لأغراض التوزيع الاقتصادي. أدى هذا إلى ابتداع نظريات متدرجة في التطور للنوع الوظيفي للدولة، وفقًا للتقدم الثوري من الجماعة إلى القبيلة، ومن ثم من الزعامة إلى الدولة.

تلك هي النقطة التي صبت فيها الماركسية جام غضبها على وجهة النظر الليبرالية. يوجد قدر كبير من الشواهد تظهر أن الشعب البدائي قد تم تجهيزه على الفور ليسمح بالتخصيص، وليقاوم أي محاولة تجعله دائمًا ومستقرًا. خير مثال لأي مجتمع يتصدى للاستغلال يتمثل في مشروطية أن تحقيق حكم الدولة المستقر سوف يكون مشروطًا بمصير جيرانيمو. وقد عهد إلى جيرانيمو – القائد الهندي المشهور – قيادة قبيلته لكي يتخلص من إثم معين، وبمجرد الانتهاء من مهمته، رفض أهل قبيلته بطريقة منتظمة إتباع مخططاته الطامحة، لدرجة أنه كان قادرًا على الاستعانة باثنين من المحاربين الشجعان فقط في حرب واحدة. ومن الواضح أن الأفراد الذين يحيون حياة البرية كانوا ضعفاء جدًا لدرجة لا يستطيعون معها أن يقيموا الدولة. لكن الأفراد الذين يبنون الدولة ليسوا محظوظين مع رجال القبائل. وقد تم إتباع محاولات للإرغام عن طريق المراوغة. كل ما سبق كان عبارة عن شواهد للتحرك نحو الدولة، ولا سيما بمجرد إدراك تداعيات الحكم الدائم. إن الأسلوب الملائم لوضع أصول نشأة الدول في إطار مفاهيمي أجبرنا عن طريق هذه الاكتشافات أن نكون واضحين، فالدولة غير طبيعية، وتفسير أصولها يستلزم منا أن نحدد السبب الذي من أجله كان البشر قادرون على المراوغة حتى الآن، ثم أصبحوا فجأة محبوسين داخل تنظيمات دائمة للإرغام. فما هي العملية الاجتماعية الناتجة عن محيط الأنشطة الاجتماعية وحبس البشر داخل الدول بعد ذلك؟

وإجابة هذه المعضلة تنقسم إلى فئتين: الأولى، عنصر بيئي. يميل هذا العنصر إلى الربط بين الزراعة ونشأة الدولة، وأهمية هذا الربط بسيط، فالري وأشجار البلح والزيتون يربطون المزارعين بشدة بالأرض، ومن ثم تجعلهم الصنف الأفضل للدول، كونه مرتبط بالأرض يجعل من الصعوبة هروبه من الحبس. إن التفسير الأكثر دقة يرى أن الدولة في نشأتها الأولى جاءت نتيجة لتحرك سريع غير واع من الوظيفية إلى الاستغلال. كان ينبغي على الزعامة في وادي النهر أن تضطلع بأدوار كثيرة جداً مثل المساعدة في التجارة والري والتخزين، لكي تصبح في النهاية قادرة على التحرك من بند الخدمات إلى خلق ما يسمى بالإرغام.

ركز العنصر الثاني للعلم الحديث على الأصول الدينية للدولة. وتمثل الافتراض السابق في هذه الحالة إلى أن اختراق الدولة وتطويرها كان بالفعل أمرًا هامًا جداً. وكان ضد مزاج الفرد أو ميله الفطري أي لم يأت موضوع هذا التطوير على هواه ومزاجه الفطري. وكان هذا هو الاحتمال الوحيد على أساس أن الإرغام كان مقبولًا لأنه كان في البداية على الأقل – في خدمة الرب – لكن هذا الجدل لم يمتلك قدرًا كبيرًا من القوة. وكان يوجد زعامات كثيرة في مدن مثل ويسكس (وهي مملكة أنجلو ساكسونية في جنوب غرب إنجلترا) وبولينزيا، حيث تم إعداد خدمات متعلقة بالطقوس الدينية دون حدوث حبس داخل زنزانات الدول. لكن، من الممكن أن نحدد هذا العنصر الديني بمثل هذه الطريقة التي تصبح جزءًا ضروريًا لأي تفسير لنشأة الدولة. لا يسعنا في هذا الأمر إلا أن نتبع تحليل “القبيلة والدولة”. تركز باتريكا على أن التغير الكبير في الشؤون الإنسانية أدى إلى الموافقة على تنظيمات الدولة، فالقبيلة هي مفهوم فطري، يقوم فيه المجتمع السياسي على صلة القرابة والنسب. أما الدولة – على عكس ذلك – تختلف تمامًا عن القبيلة لأنها تسعى إلى تنظيم الناس عن طريق مفاهيم غير متآلفة مع الوجود الشخصي مطلقًا. وبناء عليه، لا يمكن إعداد الدولة عن طريق مطالب يعتقد أنها خارقة أو غيبية. يدعم الدليل التاريخي لبلاد الرافدين وجهة النظر هذه، حيث تمثل الشكل المبكر للدولة في اقتصاد المعبد، فقد كان الغرض الرئيسي هو إطعام الآلهة. والأكثر أهمية من ذلك، عدم وجود دليل على عدم المساواة الاجتماعية بين البشر في حقوقهم، على الرغم من أن التقسيم الاجتماعي تبع خلق الدولة، وتمسك جميع البشر بأن يكونوا أدنى مرتبة من الآلهة. لكن الموقف في بولينزيا اختلف عن الموقف في بلاد الرافدين في تفسيرين:

“إما أن الدول كانت ستتطور أو لم تتطور حسبما يتراءى لهم وبطريقتهم الخاصة، فإن احتمالية التطور الديناميكي للزعامات البولينزية (نسبة إلى بولينزيا) لم تكمن في السرد المحلي للتنظيم القبلي لكنها تكمن في الدين. وإذا كانت الآلهة البولينزية لديها مطالب أكثر، فإن بناء المعبد كان من الجائز أن يولد أدوارًا اجتماعية وسياسية جديدة هنا كما حدث في سومريا (نسبة إلى السومريين)، لكن لسبب أو لآخر، كانوا راضين تمامًا. فإنه يتوقع أن هياكل الدولة ظهرت بين السومريين في الوقت الذي لم يتم فيه تطوير التنظيم القبلي.

قليل من الخوف والذعر الأكبر (الالكيركجاردياني (نسبة إلى الفيلسوف الدنماركي كير كجارد أبو الوجودية) يبدو ضروريا للدين الحقيقي: فالآلهة لا ينبغي أن تشبع! غير أنه – وبطريقة مساوية في الأهمية – يكون غياب التنظيم القبلي الذي سمح بحبس البشر في زنزانة الدولة الباقية والمستمرة.

لم تكن هذه التفسيرات متصارعة مع بعضها البعض، بل بالأحرى تؤكد هذه التفسيرات على عناصر مختلفة للعملية الفردية، ويضيء كل عنصر الطريق إلى الآخر في آن واحد. وهكذا، فإن حبس البشر في بيئة معينة يساعد على تفسير ضياع الروابط القبلية. أليس من المحتمل أن عدم استساغة مفهوم الآلهة كانت نفسها مرتبطة بضياع هذه الروابط بين القبائل؟ من المهم أن نكرر أننا لا نملك نظرية عامة موحدة لأصل نشأة الدول البدائية، إلا أنه يوجد حالات قليلة جداً هي التي تسمح بهذا. علاوة على أن ليس كل هذه الدول ولدت في وديان النهر الطمي وسجن البشر في محيط بيئتهم لا يمكن أن يعلل – تبعا لذلك – قسوة الآلهة في أمريكا الوسطى. نحن ببساطة لا نمتلك دليلًا كافيًا نعرف من خلاله ما إذا كان هذا يجعل التفسير العام لأصل الدول الذي تم تقديمه هنا صالحًا أم لا.

من الصعب أن نفسر على نحو مرضي ظهور الدولة البدائية كما أن تفسير ظهور الدول الثانوية لا يقل صعوبة بأي حال من الأحوال. إن التفسيرات التقليدية لأصل الدولة تبدو خادعة جدًا لنا لأن العوامل التي حددوها تلعب أدوارًا مهمة في خلق الدول الثانوية. لذا، وجدت الدولة الرافدية (نسبة إلى بلاد الرافدين) أن السيطرة المركزية كان لها فوائد عسكرية جمة. وبحلول 2300 قبل الميلاد حول الملك سرجون مؤسس السلالة الأكادية القدرة العسكرية تجاه خلق النظام الإمبريالي الأول. ومنذ ذلك الحين فصاعدًا، اكتظت صفحات التاريخ القديم بالدول التي خلقت عسكريًا، بمعنى استخدام الغلبة العسكرية في السيطرة على دول أخرى، من الحيثيون إلى الفرس، ومن الأشوريين إلى المقدونيين، تلك الدول التي تصعد وتهبط وفقًا لتنظيم ضعيف البنية. وبمجرد اختراع الدولة، فإن قدرتها على تنظيم قوتها العسكرية كان يعني أنها لم ترجع مرة ثانية إلى المجتمع الريفي الرعوي المسالم.

نخلص من هذا بنتيجة مهمة حول طبيعة التطور الاجتماعي، فحقيقة أن معظم النظريات المتدرجة في التطور كانت ساذجة وآلية لا يعني أننا نستطيع أن نعمل بدون مفهوم تطور الدولة كلية. فقد حدثت تغيرات أساسية معينة في الوسائل التاريخية للتنظيم الاجتماعي، أدى هذا إلى تغير المفردات وفقًا لما ينبغي أن تفعله المجتمعات، أما هذه التغيرات فتستحق أن يطلق عليها تغيرات متدرجة في التطور لكن النظرية الأفضل المتاحة للتطور الاجتماعي تعتبر حدثًا عرضيًا جديدًا. لا يوجد غاية ملازمة للعملية التاريخية التي تضمن التقدم الحتمي فالتطورات المهمة للدولة ربما تكون نتيجة البدايات التصادفية بدلًا من أن تكون نتيجة للمنطق المتعنت المتصلب. تسعى معظم التنظيمات الاجتماعية إلى التكيف مع الظروف المجتمعية من أجل تحقيق توازن عاطفي وعقلي، لذا يميل التغير الاجتماعي الجوهري إلى أن يكون ذلك الشيء الذي يسير ضد مزاج وطبع الأطراف الاجتماعية وتنظيماتهم. صناع التغيير الاجتماعي يمكن وصفهم بأنهم فاشلين بالتكيف.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى