الشرق الأوسطتحليلاتعاجل

غلطة ” سويلا بريفرمان “

بقلم : التجاني صلاح عبدالله المبارك – المركز الديمقراطي العربي

 

أقال رئيس الوزراء البريطاني ” ريشي سوناك ” وزيرة الداخلية ” سويلا بريفرمان” من منصبها  وعين  “جيمس كليفرلي ” وزيرا للداخلية خلفا لها في تعديلات وزارية جرت مؤخرا،  وتزامنت مع نشر التايمز مقالا ل-” سويلا بريفرمان ” تناولت فيه المظاهرات المؤيدة للقضية الفلسطينية، والمنددة بالحرب البربرية التي تقودها إسرائيل على قطاع غزة، في ذكرى إحياء الهدنة في الحرب العالمية الأولى، وكالت ” سويلا بريفرمان” في المقال ألفاظا ونعوتا قاسية للمتظاهرين، وإتهاما مباشرا لشرطة لندن، رغم توصيات مكتب رئيس الوزراء بإجراء تعديلات على المقال قبل نشره إلا أنه تم تجاوزها.

” سويلا بريفرمان ” ( واسمها الحقيقي “سو إيلين كاسيانا ” ) هي محامية وسياسية بريطانية من أصول هندية وتعتنق الديانة البوذية، تم تعيينها في منصب وزير العدل بعد انتخاب  “بوريس جونسون ” زعيما لحزب المحافظين، وفي سبتمبر/أيلول 2022  تسلمت ” سويلا بريفرمان” منصب وزيرة الداخلية، إلا أنها وقتذاك فجرت  صراعا مكتوما مع رئيس الوزراء في موضوع الهجرة الموضوع الرئيسي الأول لمعظم دول القارة الأوروبية، وفعّلت لوحدها خطة مغايرة لخطة الحكومة، لذا فقد  قدمت استقالتها في أقل من شهرين من توليها وزارة الداخلية، وعادت مرة أخرى بعد ايام من هذه الاستقالة في ظل حكومة ” ليز تراس “.

ولأن التهور المتمثل في مخالفتها ل-مبدأ المسؤولية الجماعية الحكومية فضلا عن تضامنها الكامل مع إسرائيل كان ملازما لها، وربما الاندفاع والطموح لكسب ثقة المحافظين؛ فقد ارتكبت في واقع الأمر غلطة عمرها بعد أن كتبت مقالا ل-صحيفة التايمز عن المسيرة المؤيدة للفلسطينين متهمة فيه الشرطة بالتحيز للجانب الفلسطيني، وهو ما دفع ” ريشي سوناك” إلى كسر جموحها وإقالتها من منصبها .

في مقالها، كانت تعتبر  المسيرة ترتبط ارتباطا وثيقا مع حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)، وهو اعتبار يؤكد صهيونيتها وتضامنها مع إسرائيل ومع زوجها يهودي الديانة، فقد قالت ما نصه: لا أعتقد أن هذه المسيرات هي فقط صرخة مساعدة لغزة، بل هي تأكيد على التفوق من جماعات معينة، وبالتحديد إسلامية، من ذلك النوع الذي رأيناه في أيرلندا الشمالية، وأن بعض الجماعات المنظمة لمسيرة السبت لها علاقات مع منظمات إرهابية بمن فيها حماس.

وفي ذات السياق الداعم لتأجيج التوترات والتضامن مع إسرائيل فقد شككت في نزاهة الشرطة البريطانية، التي كانت مهمتها هي حفظ الأمن في المسيرة الهادرة، بل أنها لم تتورع عن وصف المتظاهرين بأقسى الصفات والنعوت فقد وصفتهم بالرعاع والإرهابيين، وبالجملة فقد نجحت “سويلا ” في إثارة أقصى قدر من الإساءة، وذكرت أن هناك انطباع متكون أن ضباط الشرطة البارزين يمارسون المحاباة عندما يتعلق الامر بالمتظاهرين، بل إن جماعات الأقليات ذات الروابط السياسية والمقربة من اليسار تحصل على معاملة أفضل من الضباط البارزين أكثر مما يحصل عليه المحتجون القوميون ومن اليمين المتطرف.

” يقابل المحتجون من القوميين واليمين المتطرف ممن شاركوا بعدوانية برد قاس، لكن الرعاع المؤيدين لفلسطين يظهرون نفس السلوك ويتم تجاهلهم، حتى عندما يخرقون القانون بوضوح، وتحدثت مع ضباط حاليين وسابقين ممن لاحظوا هذه المعايير المزدوجة؛ وعبر مشجعو كرة القدم بصراحة عن الطريقة القاسية التي تتعامل فيها معهم الشرطة مقارنة مع مجموعات صغيرة تدفعها السياسة في معسكر اليسار “.

وأضافت: ربما كان ضباط الشرطة خائفين من النقد الذي سيوجه إليهم أكثر من تنفير الأغلبية، وعلى الحكومة أن تتبنى وجهة نظر أوسع؛ لو مضت المسيرة، فإن الرأي العام يتوقع نهجا حاسما ونشطا من الشرطة تجاه أي مظهر للكراهية وخرق للشروط والفوضى.

مع هذا وفي أول رد فعل لتصرفات وزيرة الداخلية قالت ” يوفيت كوبر ” ، وزيرة الظل في حكومة العمال في تغريدة لها على منصة “إكس” :  إن “سويلا بريفرمان” خارج السيطرة. ونتيجة لذلك وبعد أن اتهمها منتقدوها بتأجيج التوترات خلال أسابيع من التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والاحتجاجات المضادة في المملكة المتحدة ،  أقالها “سوناك” من منصبها.

ولأن وزيرة الداخلية كانت تتهم الشرطة بإزدواجية المعايير في التعامل مع التظاهرات المؤيدة لفلسطين مقارنةً مع تعاملها مع تظاهرات الأخرى، فقد كان من الطبيعي أن يحدث ذلك شرخا في منظومة السلطة الأمنية وتصدعا في حزب المحافظين بزعامة  ” سوناك “، وبدأ الأمر كما لو أن هناك حكومتان منفصلتان عن بعضهما في بريطانيا ؛  حكومة رئيس الوزراء  “سوناك” من جهة، وحكومة الداخلية وتمثلها “سويلا بريفرمان” من جهة ثانية.

من ناحية ثانية فقد بات الخوف من تصاعد التيار الإسلامي والنزعة الإسلامية في أوروبا، أو على الأقل الدعوات والتظاهرات الداعمة لقضايا المسلمين، مثل الحرب التي تضرمها إسرائيل في فلسطين، بات في دول الغرب سمة من سمات الدولة أو لازمة من خصوصياتها، لذا فقد وضعت نصوص القانون الأوروبي موادا تتيح لها مقابلة هذا التصاعد، فاستخدمت الشرطة في لندن البند 44  من قانون الإرهاب، الذي يتيح لها ايقاف وتفتيش أي فرد يشتبه به، ووصلت حالات الايقاف والتفتيش إلى أرقام غير مسبوقة إذا علمنا أنه في الفترة ما بين 2004 إلى 2009 سجلت نحو مليون حالة اشتباه وتفتيش في بريطانيا.

نخلص مما سبق بنتيجة مفادها أنه رغم وجود تظاهرات ومسيرات في دول الغرب مؤيدة للقضية الفلسطينية في الصراع العربي الإسرائيلي،الذي يعتبر من أطول انواع الصراعات في العالم، ومنددة بالصوت العالي بالأساليب البربرية والهمجية التي تسلكها إسرائيل في قمع وتصفية الفلسطينيين وفصائل المقاومة الفلسطينية، فإن الأنظمة الحاكمة الغربية لا يبدو لها قرارا مستقلا نابعا من إراداتها، وأنها تدور مع الولايات المتحدة في ذات المسار الداعم والمؤيد لدولة الاحتلال وفي حقها ( كما يزعمون ) في الدفاع عن النفس، وهي من ثم حقيقة ليست وليدة اليوم أو جديدة نحتاج إلى تفكيكها ودراستها، لكنها ثابتة  وقديمة منذ وعد بلفور المشؤوم.

مع هذا فإن قرار إقالة وزيرة الداخلية من المنظومة الحكومية هو قرار متأخر ، فقد كان أولى أن يتم من وقت سابق، في دولة إشتهرت في العقد الأخير بكثرة الاستقالات والإقالات خاصة في منصب رئيس الوزراء والحقائب الوزارية، بما يشبه أو يمثل حقيقة الفوضى الحكومية عموما في كافة أنحاء المملكة المتحدة ، وفي وقت كان يصنف البرلمان البريطاني من أقوى انواع البرلمانات ليس على مستوى بريطانيا وأوروبا فحسب بل على المستوى العالمي.

من ناحية ثانية تلقي إقالة وزيرة الداخلية الضوء على الكم الكبير من الاستقالات المتتالية ل-روساء الوزراء، ما يعني وجود نوع من عدم الاستقرار السياسي في بريطانيا، فقد استقالت  ” تيريزا ماي” في اعقاب خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، ثم استقال ” بوريس جونسون ” في أعقاب فضائح جنسية طالت البرلمان البريطاني وحزب المحافظين ومقار الحكومة في داونينغ ستريت، وأخيرا استقالت عن أقصر مدة رئاسية ” ليز تراس ” والتي تعتبر صاحبة أقل مدة رئاسية بعد  الليدي ” جين غراي ” ملكة الأيام التسعة في تاريخ المملكة المتحدة، وهاهي وزيرة الداخلية ” سويلا بريفرمان ” تقال من الوزارة بعد  فترة قصيرة نتيجة ارتكابها غلطة قضت على طموحاتها ورغباتها الشخصية.

إنه ليس بمقدورنا تماماً أن نرجح إذا ما كان هناك تبادل أدوار بين وزارة الداخلية ورئيس الوزراء البريطاني المؤيد كليهما ل-إسرائيل وفي حقها في الدفاع عن النفس، في مسرحية يعرض علينا البريطانيون شيئا من فصولها، أم أن هناك صراعا داخليا وتصدعا وتنازعا في القرار في بريطانيا، لكن بوسعنا ان نعترف أن الغرب لم ولن يكون يوما ما سندا للقضية الفلسطينية بعد أن إرتضى يكون تابعا للولايات المتحدة الأمريكية، حليف إسرائيل الرئيس والأساسي التي تقف خلفها بقوة وتدعمها بالأسلحة المتطورة لقتل الشعب الفلسطيني، وإبادة فصائل المقاومة الإسلامية، التي ألحقت بها هزيمة أولية يصعب محوها من الأذهان.

ولأن وزيرة الداخلية البريطانية وصفت المتظاهرين المؤيدين لفلسطين والمطالبين بوقف إطلاق النار في قطاع غزة بالرعاع والإرهابيين، بل أنهم تربطهم علاقة وثيقة بحركة المقاومة حماس، فإنها قضت سريعا من منصبها، ولم تمهلها الأقدار لتتمكن من كل نزعاتها ورغباتها المنفردة، أظن أنها ربما تشابه في ذلك الليدي ” جين غراي ” ملكة الأيام التسعة،  التي قضت تسعة أيام فقط ملكة لإنجلترا وإيرلندا، غير أن الملكة طلبت بنفسها من الجلاد أن يقطع رأسها سريعا، لأنها لم تمهلها الأقدار ايضا تنفيذ رغباتها وإدارة بلادها، ومما جاء في التاريخ  الإنجليزي،  إن الملكة ” جين غراي ” قد مضت إلى مصيرها تواجهه بشجاعة وثبات يوم الإعدام وأنها عصبت عينيها بمنديل، ثم تلت آيات من الإنجيل، وكانت آخر كلماتها موجهة إلى الجلاد قبل أن تقطع المقصلة رأسها: “أرجوك نفذ الحكم بسرعة” .

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى