الشرق الأوسطتقارير استراتيجيةعاجل

الوعي باستعادة الهوية الغينية

بقلم الباحث : محمد بوي صو،  جمهورية غينيا، وباحث دكتوراه بمؤسسة دار الحديث الحسنية بالرباط.

  • المركز الديمقراطي العربي

 

توطئة

الهوية الإنسانية عامة شاملة لجميع أصناف الناس باعتبارهم كبشر. والهوية القومية أخص منها، وهي العمود الفقري الدال عيانا وتجربة على سنة الاختلاف واختلاف السنن الثقافية والدينية والجمالية والعرفية في الواقع.

فالهوية هي الرسامة المعرفة حدا ومحتوى للذات الجسمية الحية وغيرها، وهي المحددة لقيمة الأحياء على الجمادات والأموات، وهي المبينة لفروق الجواهر والأعراض بين الموجودات سواء تعلق وجودها بالعيان، بالبنان أو باللسان.

والحريات البشرية، والمساواة الطبيعية أو الاجتماعية، ومفهوم العدالة لا يمكن قياسها بمقياس قابل للعكس والطرد إلا بعد إدراك هوية الذوات والمجتمعات وقيمها ومعاييرها الكيفية والكمية. ويقول حسن حنفي: “ليست الهوية موضوعا ثابتا أو حقيقة واقعة بل هي إمكانية حركية تتفاعل مع الحرية. فالهوية قائمة على الحرية لأنها إحساس بالذات، والذات حر”[1]. لكن ما هي الهوية وكيف يمكن اكتسابها أو ضياعها؟ وكيف هي حال الهوية الغينية؟ وما هي طرق مراجعتها واستعادتها؟

فهذه هي الإشكالات العلمية التي أريد تحليلها في ثنايا هذا البحث المتواضع، مقسما إياه إلى مقدمة وثلاثة مطالب وخاتمة.

المطلب الأول، التفكير في تنظير الهوية:

فالهوية لغة بمعنى “هو” أي الآخر، أو “الذات” أو بمعنى “أنا” في مقابل “الغير”. فمفهوم الهوية في هذا المعنى هو البحث عن كنه الشيء وجوهره ووصفه حدا ورسما، كما وكيفا. فقيمة التركيز على عنصر الهوية تظهر في كونها كاشفة عن مكونات الذات الإنسانية على وجه الخصوص. وتركز أساسا على بيان الفروق الجوهرية في التكوين الظاهري للإنسان بل وعلى الهندسة الوراثية والبيولوجية، ومكتسباته الفكرية، وتحصيلاته العلمية والعملية، وتضعه داخل حيزه العرفي والسلوكي، وتصرفاته الخاصة به من حيث الفن التعبيري والتعاطي مع الأوضاع.

ويرى دوركهايم: “أن داخل كل فرد مكونات ومعطيات جمعية، تتمثل بالضمير الجمعي، تتشكل من أنساق قيم وأفكار وعادات ورموز تعبّر عن شخصية الفرد، وتعبّر عن الجماعة التي ينتمي إليها. وهذا الضمير الجمعي هو النواة البانية للهوية الجمعية، وهي ذاتها نماذج التفكير والعمل، ويرى أن الجماعة تفكر وتسلك وتشعر بشكل مختلف تمامًا عن أفرادها، إذا كانوا منفردين، فالتجمع يؤدي إلى إنتاج وعي جمعي وهوية اجتماعية”[2].

فمبدأ الهوية، جوهر في الإنسان، ومظهر في العمران، ومنهج في الآداب، وطريق في الأشكال والمظاهر وفي التنظيم والبناء، تفكك علامات الضعف والقوة والمقياس، وتستشكل حول الموجود والمعدوم من حيث الاستعمال والاستثمار أو من حيث الانكماش والتراخي وعدم الفاعلية إن تعلق الأمر بالثقافات والمجتمعات.

فكل أمة أو شعب لها هويتها الخاصة بها من حيث الوجود والاستقلال الذاتي (الخلقة والسلالة، المكان الجغرافي، الأطعمة، التقاليد والعادات الخاصة…)، ومن حيث الأخلاق والسلوك واللغة والدين والعرق والانتماء المذهبي والفكري، ويحيط كل هذه سياج معنوي عام يشكل لكل فرد في مجتمعه قابلية تمكنه من أن يفهم صاحبه بدون نطق أحيانا، وذلك ناشئ عن الاحتكاك والتآلف والتعايش الممتد في الزمن.

فالطريقة المعيشية والفكرية والعرفية التي ينشئها قوم من الأقوام لذاته، جزء من مفهوم الهوية العامة، إذ هي مكتسبة، والهوية العامة منها الموروث ثقافة وبيولوجيا، دينا ولغة.

والقاعدة هي: أن الهوية كلما خصت عمت، وكلما عمت خصت. فهوية أفارقة جنوب الصحراء في لون البشرة وطريقة تنظيم العمران عامة عليهم من جانب، ومن جانب آخر فهي خاصة بهم دون الصينيين والأمريكيين مثلا. وهو اختلاف يتجلى في شتى بصماتهم الفنية والثقافية. ففي هذا المعنى يقول حسن حنفي: “الهوية إذا ليست شيئا معطى بل هي شيء يخلق. لا يشعر بها كل إنسان كوعي مباشر، فالإنسان اليومي يوجد أولا، يعيش أولا ثم يعي ذاته ثانيا”[3].

فكل بيئة وتاريخ ومناخ يختلف عن نظيره من الجانب الآخر، والحيوانات التي تعيش في الأماكن الصحراوية ليست هي ذاتها التي تعيش في المناطق الجبلية أو السهلية.

فمفهوم الهوية في عمقها، ينم عن حرية وجودية طبيعية تشهد بمساواة البشر وحرية الجماعات في سن طرقها التي ترتضيها في العيش والتصرف. ويوحي بأن ليس هناك تفوق طبيعي لجنس من الأجناس على الأخرى بل الكل يتفوق أو يتدنى بعمله فقط.

والهوية في مفهومها الاستقلالي، تكشف لنا عن مظاهر لا فاعلية التقليد وبشاعته، وخاصة ذلك النوع من التقليد الذي يجعلنا ننجر وراء النماذج والأمثال التي نحسبها عليا لتسوقنا تماما إلى فخ التقمص والتماهي الكلي. التقليد عدو الهوية الواعية، والاستقلال سيد القرار. والتقليد مذموم ليس فقط لطبيعته المرضية الاستهلاكية الاتكالية العارية عن الإنتاج والابداع والكفاء الذاتي بل حتى لعجزه عن الحفاظ على الموروث الثقافي والفكري وطبيعة العيش الخاص.

فالتقليد بمنطق نظرية الهوية هو انسلاخ عن الذات وتماهٍ مع الغير، وهو نوع انتقالي من وجود أصلي إلى وجود تطفلي تقمصي يفضيان إلى الانتكاسية والرجعية والمضي نحو الدونية والتسفل. يقول دكتور نور الدين لبصير: ” إن قضية الهوية قضية محورية جلبت اهتمام الأمم، لذلك الصراع اليوم هو صراع تتجاذبه الهويات من جهة واللغة من جهة ثانية، وفي خضم هذا الصراع إذا لم ننتبه لهذه القضية سنذوب حتما في ثقافة غيرنا، ً وتتلاشى مميزاتنا الخاصة لنكون بعد ذلك ذيلا للآخرين، لذلك أصبحت قضية ما يسمى بالآخر تشغل حيّزاً كبيراً، ونقاشا محتدما، وجدلاً واسعاً في الطروحات الثقافية على الساحة العربية في الآونة الأخيرة، لاسيما في مجال مواجهة الذات والآخر ونقده، حيث توجه تهمة رئيسة الآن إلى الأنا بأنه لا يعترف بالآخر، ولا يفقه التعامل معه ،بل لا يضع قضية الآخر برمتها في الحسبان ،ويعتمد على الإقصاء والانغلاق على الذات…”[4]

فانطلاقا مما سبق ذكره، سأقدم هنا أهم المظاهر التي تكشف عن تدهور الهوية الغينية. دون نسيان أن غينيا من أحسن الدول الغرب الإفريقية موقعا جغرافيا وسميكة جيولوجية، وبيئية وتاريخا، واهتماما بالتدين الصحيح، وتمسكا بالعرف والعادة وانفتاحا أمام الأغيار.

وعلى رغم من ذلك كله، لقد تقاعست إرادة حكام البلد وأولياء أموره حتى تأخرت حركة إدارتهم الحكومية، وتلبدت غيوم القهر والتثاقل والضعف عليها، فدخل الناس في شظف لا مثيل له، في فقر مدقع وفي تشقق اجتماعي ثم في تلاش وانفلات عن الهوية واستئصال شبه تام عن الواقع وعن الموروث الثقافي والأخلاقي.

المطلب الثاني، مظاهر ضياع الهوية في غينيا:

أرى بأن هناك ثلاثة عناصر سيادية تأطر على ضياع الهوية في غينيا، وهي متعلقة بالنمط الفكري والسلوكي والثقافي في البلد، وهي كالتالي:

أولا، ندرة الإنتاج:

لقد أدى هذا المظهر إلى نتائج خطيرة جدا، وإلى هدر كبير في الموروث الثقافي في البلاد. حيث أصبحت جميع أو غالبية الأطعمة والمشروبات والأشربة الاصطناعية، والكتب العلمية والأدوات والآلات التقنية والأثاث تستورد من خارج البلاد. فمن ثم، تغيرت الأذواق، واختلف السابق عن اللاحق، وتحول القديم إلى معدوم، وأصبح الجديد هو المستورد، وانتهت القصة إلى فقدان تام للهوية الإنتاجية، ونشأت ظاهرة الاتكالية والأفول، والاذعان لشروط المنتج.

هذا هو نسيان الماضي، وفقدان الحاضر، ولا أدرية المستقبل. وكل ذلك ناتج عن العجز حول تطوير الماضي وتحيينه وتكثيره وتوزيعه واعتماده وتعميمه والحث على تعاطيه ومواكبته بالأذواق الناشئة التي لا تختلف بأدبيات الاحترام وآداب العرف الاجتماعي والوازع الديني.

بقلة الإنتاج، أصبحت أذواقنا يتلاعب بها، نُساق بها وبجميع أحاسيسنا إلى مهاوي الانسياق والتعجب بما يأتينا من الخارج. فقلة الإنتاج مرض اقتصاد البلد. لقد فقدنا بها هويتنا التقليدية، لأننا نسيناها بطول امتداد فعل الترك وعدم الممارسة والاشتغال بها. وأصبحنا نعتمد على القادم من الخارج فحسب. والواجب هو الرجوع إلى الهوية الإنتاجية وكشفها وبلورتها والحث عليها بجميع ما يتعلق به حاجة البلاد والعباد من آلات عُمران وأثاث وبجميع ما يحتاجه الناس في خاصة أنفسهم وأسرهم.

ثانيا، الفردانية:

الفردانية سبب أصيل في تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة، وهي تبحث عن المنفعة الذاتية لتشبع نفسها من الآخر دون أن تفيد بقيد أنملة. وهو الأمر ذاته الذي يجعل من التجار والمهندسين والفنانين لا يفكرون في تطوير الأشياء المحلية وعرضها للسوق المحلي والدولي، بل يلجؤون دوما إلى استيراد المنتجات الخارجية والاكتفاء بنشرها لتكثير الأرباح.

لا يفكرون في وجوب بقاء الوطن تحت سيادته الفنية والصناعية والإنتاجية بل يسلكون كل سبيل يوصلهم مباشرة إلى توفير الأرباح بقليل من التكاليف. والأمر متجدد في كل قطاع البلاد، في الإدارة، في المدرسة، في المتجر وحتى في الفلاحة والتربية. فكل الأدوات والآلات التي فيها مستوردة من الخارج للأسف. ولقد ذهبت إلى إحدى قرى غينيا، فوجدت الناس قد تركوا ممارسة الزراعة والتربية فيها، والأدغال تكاد تقتحمهم في عقر بيوتهم من شدة عدم اهتمامهم بالأراضي الزراعية والغابة.

ومن جانب آخر، فكل البرامج في المدارس مستوردة، لا تكاد تجد فيها أدبا وطنيا راقيا، ولا فيلسوفا غينيا واحدا يذكر، ولا مؤلفات غينية، ناهيك عن العلوم الحية وفنون الابتكار. فأمجاد البلاد كلها تضيع سدى بلا ذكر ولا تذكير إلا نادرا في الدرس التاريخي وبشكل مقتضب. وأما في القطاع الإداري فحدّث ولا حرج، لأن كل السلوب فيها جائزة، بدافع الحنوّ تحت قيود المستثمر الدولي الذي يفرض شروطا تخرج الإدارة عن أي سيطرة وعن أي أسلوب من التأثير بل تبقى مشاهدة معجبة بالمشاريع وبالمنتجات والمحصولات، لتنتهي الموارد العائدة للدولة كلها في آخر المطاف في جيب رجل واحد.

والهوية الجمعية ميتة في البلد، لأن البنية الفنية العريقة للأنشطة الشعبية تبقى حتى الآن في دائرتها الخاص لم تعمم، وقد اختلط بها كثير من المجون وعدم التحشم وخاصة في الموسيقى وما يجري مجراها. والتجمعات لا يخرج منها إلا اللهو واللعب والمرح؛ والجد فيها نادر، لا تركز على تعطيش الهوية الوطنية الإنتاجية المبنية على رؤى كلية مدروسة لمستقبل الفرد والجماعة في البلد.

ثالثا، الجهل والفقر:

فأغلب سلوب البلد تأتي من هذين العنصرين. يظهر فيهما من جانب، جهل الماضي وقيمته وعلاقته بالحاضر، وجهل عناصر الهوية الوطنية والمواطنة، وضعف الوعي حول مآثرها القديمة وكيفية استرجاع القيمة المادية والمعنوية للموروث الثقافي والفكري.

ومن جانب آخر يتسلط على الرقاب فقر مدقع وناتج عن الفساد الإداري في تدبير اقتصاد البلاد ومن سوء المؤسسة العلمية. ويخضع الناس لوطأة الرخيص والرخصة الأجنبية على صيغة (bordo) ولو كان ذلك على حساب الهوية الوطنية.  الجهل والفقر في الحقيقة عدوان لا يحاربهما حقا وينتصر إلا العلم والاستثمار الحقيقي في تقرير الذات وفي شتى المجالات الاقتصادية والفكرية العلمية والعمرانية.

والذي أتأسف عليه كثيرا هو، ضعف الكيان المدرسي ونظامه وقصور القوى الادراكية والتكوينية لدى القائمين عليها في البلد. لأن المدرسة في الحقيقة هي المعول عليها، لتمثل ومضة الضوء الكاشفة، وشعلة الفكر المحفزة لوثيرة العمل والتغيير. فالبرامج المدرسية عتيقة جدا لا يتطرق فيها تجديد، ولا أظن أن أحدا يفكر في ذلك، والطلبة يمرون على البرامج دون إتقان ولا تدقيق، والمادة العلمية تدرس بعجالة وتخلصية وكيفما اتفق. فأنى لمثل هذا النظام أن يبني مستقبلا فضلا من أن يحافظ على هوية علمية تراثية أو يشارك في إزالة الفقر والجهل الجاثمين على صدور الغينيين؟

فيجب مراجعة الهوية المدرسية الغينية، وإيقاظ الوعي وتكوين مستواه المعرفي وتصويبه نحو الأهداف. لكن من بقدرته فعل ذلك يا ترى؟ أكيد إنهم هم القادة من الشباب الواعين الغيورين المنتبهين الغائيين من أبناء البلد فعلا، وليس أحدا غيرهم. يجب عليهم النهوض لتكوين جمعيات تهتم بشتى مجالات الحياة الاجتماعية، وتشهير القوى الشبابية الخفية وترويج النماذج الوطنية وتشهيرها وإعطائها القيمة المعنوية التي تستحقها.

فعلى جيل الشباب البحث في الماضي والتضامن من أجل العيش الكريم في الحاضر وتصوير ثم استشراف المستقبل الذي يريدونه لأنفسهم ولأبنائهم حقيقة، ويركزون على تحصيل ذلك بخطى التدرج وبقدم الحزم والصبر والإيمان.

فهاهنا عناصر فعالة تساعد على الحفاظ على الهوية وعلى تقويتها ماديا ومعنويا، لأنها بالفعل تورث روح الاستيعاب والتكيف والتجديد والمراجعة والانتاج. وهي عناصر علمية إبداعية تحتاج إلى اجتهاد وكفاءة وحيوية وتصور واضح لأهداف البلد حتى تعيد مجده، وتبني حاضره ومستقبله.

المطلب الثالث، عناصر تعزيز الهوية العمرانية الغينية وتقويتها:

وهما عنصران أساسيان تعيدان تشكيل الموجود وتصوير المفقود لتحدثه وتساعد في تجسيد الثقافة وبناء حضارة خاصة بهوية غينية، وهما:

أولا، الفن:

الفن ركيزة الإبداع، وعنصر البيان عن الروح العميقة الكامنة في الأشياء والذوات، وفي أشكال الحياة البسيطة والمركبة. وهي طريقة التعبير عنها روحيا وجماليا من حيث الشكل والمضمون. فالفن عبارة عن رياضة فكرية لخدمة أنساق الماضي والواقع والمتوقع، وحكاية بالخط أو بالرسم أو بالتمثيل عن جمال المسموعات والمرئيات والمتخيلات بصفة تفضي على الناظر طابع الاستشعار والميول والرغبة وحب النمو والرفاهية والازدهار ومعرفة الذات والغير على شكل أفضل.

فالفن خادم للهوية، يرسم كيانها ويبدع فيها، ويبين حدودها، ويخمن في ثنايا تطويرها، ويبدع نماذج حية للهوية العمرانية والبنية التحتية. والفن مجاله الأقوال والأفعال والعمليات العقلية، ويتبين ذلك كما يلي:

  1. الفن التعبيري: فالحكايات، والقصص، والمسرحيات، والخطب، والمواعظ، والموسيقى، هي عبارة عن فنون تعبيرية بأشكال متعددة. كلها تكتب أو تقال بشكل فني ومتقن. في الانتقال من فقرة إلى فقرة، والترتيب بين عناصر مقال واحد بشكل نظامي، أفكارا كانت أو ألفاظا، فكل ذلك يتبع فنا معينا.

والهوية الفنية لكل ناطق أو كاتب تختلف عن آخر في المجال نفسه، غير أن هناك ما يجمع الجميع وهو الوصول إلى هدف أسمى. وهذا المعنى هو الذي يجب أن يركز عليه الغينيون المبدعون، أي على كيفية التعبير وكتابة ما من شأنه أن يحافظ على الهوية ويغير الوضع التافه تماما.

  1. الفن السلوكي: فإن تنظيم العمران، وتشكيل ما يحتاجه الناس في حياتهم اليومية من الملائق، والأواني، وشتى أدوات المنزل والمطعم، وصناعة آلات الصنبور، وتعبيد الطرق وإيجاد الضوء والكهرباء، وضرب العملة، وصناعة أدوات الفلاحة والرياضة، ومعدات الترفيه، كلها تصدر عن إبداع وفن وإنتاج بشكل رفيع جدا. والتركيز على الفن السلوكي مهم جدا للغينيين، من حيث بناء الجامعات التقنية القادرة على تكوين النخبة وتهييج مشاعل الابداع فيهم، وربطهم مباشرة بقضايا الواقع العملي الجاد.
  2. الرياضة العقلية: فكل من التحليلات الرياضية، والزخرفة، وأشكال الهندسة العمرانية، وتقنيات البرمجة والتخطيط الاستراتيجي، وهندسة الجدوى، ومناهج تدبير البشر، فنون علمية عقلية متاحة وقابلة للتطوير والتكييف والخصخصة، وفعالة في سبيل تغيير الواقع وبناع المتوقع.

يجب تدريج برامج الإذكاء والفضولية في المناهج الدراسية الابتدائية، والتركيز على تعليم الحساب وعلوم البيئة، وتعليم فنون الرسم والخط والتصور الدقيق للعناصر الحية والجمادية مع التعبير عن ذلك بوضوح. مثلا يمكنك عرض معدات رياضية أو ترفيهية، فيها بعض الأمور الغامضة، فيقوم التلاميذ بالإشارة إليها وتحديدها واستخراجها وإعادة ترتيبها.  ويمكنك أن تحكي لهم قصة ثم تأمرهم أن يرسموا شيئا ما من القصة انطلاقا من تصورهم الخاص ثم تقارن وتستنتج.

هذا من ناحية المجال الابتدائي، ويجب تفعيل منهج الاتقان والتفاعل والاندماج في كافة مشوار الطالب. فكلما تفوق في مرحلة ما، كلما نعقد له الأمور ونربطه بالواقع العملي والابداعي.

ثانيا، الموضة:

وهي النمط أو النموذج الذي يعبر عن الذوق والاختيار عند فرد أو مجموعة من الأفراد. وهي في الحقيقة فن الاعتناء بالمظاهر في زمان أو مكان أو في عصر ما. والموضة منها ما يبدعه الشخص لذاته أو ما يرى ذوقه فيه من مصنوع غيره. فكما أن الموضة عنصر سيادة، وهوية، تعبر عن قناعة وذوق رفيع في اللباس والأدوات والمبيعات والتصرفات وطرق ربط العلائق مع الأغيار. وكونها صادرة من ابداع ذاتي وإنتاج محلي من الجهة المستخدمة فردا كانت أو دولة عنصر سيادة.

لأن الموضة تعبر بشكل عميق عن هوية ما، وهي سرعان ما تغير جذور ثقافة أو حضارة ما. فإذا بنيت على الاستيراد، تكيفت على أذواق المنتجين، وبذلك تسود أذواقهم جبرا على الذوق المحلي فتمسح عناصر الهوية المحلية تدريجيا. فهناك ما لا يجوز استيراده من الخارج بل يجب صناعته وإنتاجه، لئلا يضيع الموروث المحلي، وحتى لا تموت في البلد روح الإنتاج والإبداع.

فالموضة يمكنها أن تحوّل الرخيص غاليا، أو الرديئ جيدا، أو المنسي حاضرا، أو تشعر عن نقص يجب إيجاده. فإبداع الموضة يكون من يد الفنان، لكن تشهيرها يكون على يد المشاهير الأعلام. وهذا يوحي بأنه إذا لم يهتم الصناع والمشاهير والإعلاميون، فلا فن ولا موضة وتموت الهوية عندئذ وتذوب.

فمن يشاهد في الواقع الغيني ما يلبسه المشاهير، وما يروج له في الإعلام، فلا يكاد يجد هناك مصنوعات محلية، ولا موروثات تاريخية عرفية، بل كل شيء مستورد، من الملابس إلى كرسي الرئيس. أي هو عينه الموت الحقيقي، والبقاء بلا ذكر ولا ذات، وهو التقمص والتماهي مع المنتجين أو البقاء على الأحرى في هامش الوجود.

فالموضة تنبئ عن حس رفيع بالقدرة على الاختيار والتبني للفن، فلذا يجب ألا تكون مفروضة من لدن جهة خارجية، بل يجب أن تكون اختيارية توافقية طواعية بدون قيود. وكما أنها آنية ومتجددة، فيجب النظر في مواكبتها للفنون الثقافية الاجتماعية الأصيلة والمعصرنة في البلد. وينبغي أن تكون مطابقة للفن التشكيلي، وأن تحترم القواعد الاجتماعية، وألا تعتدي على حد الوقار والتحشم، وأن تكون ذات ثراء معنوي لوذعي تلفت النظر وتزرع السيادة.

ختاما:

فإن عودة الوعي الغيني ستجعل من الأجندة الوطنية الإصلاحية والأهداف الحضارية مرسخة في دماغ كل ناشئ وناشئة، فيتكاتف الجميع في سبيل حماية الفضاء العام واحترام المجال الخاص وتطوير المجال العمومي[5] للوطن.

غينيا التي نحلم بها، هي غينيا الجد والعمل، غينيا استغلال الأراضي الخصبة المباركة، والثروات الوافرة، وتوظيف الشباب الأكفاء، والعقول الحادة، والضمائر المريدة الهادفة، والخيرات الكثيرة الرائجة، غينيا التعارف والتضامن والبناء والتعلم والحوار والتبادل والتنمية.

يجب أن تحمِل الخطب المنبرية والسياسية والإعلامية هذا المفاد، ليبلغ الهدف إلى أقصى مسامع أهل الديار والأسر النائية، لكي يسود التفاهم، ويستيقظ الناس من سباتهم العميق، ويشمروا عن ساعد الجد في سبيل خدمة الوطن عن طريق العمل الجماعي والمشروع الخيري.

وعلى الدولة التخطيط واتخاذ التدابير اللازمة في سبيل تعطيش اقتصاد البلد، وإيجاد فرص العمل للشباب، وإقامة دورات وورشات تكوينية، مفادها تهييج الطاقة الناعمة، وتنبيه الغافل، وتوعية الناشئة حول برامج الدولة وأجندتها الشاملة، وتحدياتها الاجتماعية والبيئية والاقتصادية والتقنية، ليكون الباحث على وعي عميق فيما يجب عليه النهوض لأجله والعمل لفك رموزه وبيان معضلاته مستقبلا.

ويجب أخيرا تطريق منهج الحوار والمناقشة، وأدبيات المنافسة السليمة، وتقديم الصالح العام على مصلحة أي كان في جميع شرائح الدولة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

[1] ـ حسن حنفي، كتاب الهوية، مصر، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2021م، ط1، ص 25.

[2] ـ عبد الغني عماد. سوسيولوجية الهوية، جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء، رفادي كحلوس، (مركز دراسات الوحدة العربية بيروت – لبنان، فبراير2017م).

[3] ـ حسن حنفي، المرجع السابق، ص 25.

[4] ـ نور الدين لبصير. تجاذبات اللغة والهوية بين الأصالة والاغتراب، الجزائر جامعة حسيبة بن بو علي، الشلف.

[5] ـ ماهر، عبد الرحمان. ما هو المجال العام، مجلة المنصة. يمكن الرجوع إليه، وإلى كتاب هابرماس “التحول البنيوي للمجال العمومي” لإدراك مفهوم المصطلح.

5/5 - (1 صوت واحد)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى