ذريعة “تفويض القبائل” على الأبواب .. فهل من آلية مغاربية لسدِّها؟
بقلم : د . الحسن العزاوي – المركز الديمقراطي العربي
انطلاقا من نقاش حول موضوع الأزمة الليبية مع بعض رواد الفضاء الأزرق، جاءت فكرة كتابة هذا المقال. سنعمل من خلاله على استعراض ثم تحليل أهم المحطات التي طبعت هذه الأزمة مباشرة بُعَيْدَ إسقاط نظام القذافي، وظهور ملامح “الثورة المضادة” التي أطلقها الجنرال المتقاعد حفتر، مرورا بأبرز المبادرات الدولية لنصل في الأخير إلى مشروعِ اقتراحٍ يُمَكّن من استصدار مبادرة جماعية للدول المغاربية تنتصر للشرعية الدولية في ليبيا،على الرغم من الوضع المترهل للاتحاد المغاربي.
الاتحاد المغاربي..التأسيس والتنصيص
تأسس الاتحاد المغاربي منذ 1989 ويتألف من خمس دول وهي موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا. تنص معاهدة الاتحاد ، فيما يتعلق بالدفاع على “صيانة استقلال كل دولة من الدول الأعضاء”. وفي المقابل تنص دساتير معظم هذه الدول بصيغ مختلفة على تشبثها بهذا الاتحاد. فالدستور التونسي في فصله الخامس يعلن الالتزام بـ”تحقيق وحدته وتتخذ (الجمهورية التونسية) كافة التدابير لتجسيمها” ؛ ويعتبر الدستور الجزائري أن “الجزائر جزء لا يتجزأ من الاتحاد”؛ كما يؤكد الدستور المغربي 2011 التزامه بـ”العمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي..”؛ ويعلن الدستور الموريطاني “تصميمه على السعي من أجل تحقيق وحدت(ه)”. ولعل الأزمة الليبية التي لاتزال مستمرة بكل تشعباتها تضع كل كل هذه الإعلانات الدستورية على المحك.
رياح الثورة المضادة في ليبيا.. و”اتفاق الصخيرات”
بعدما تم القضاء على نظام القذافي سنة 2011، وفي إطار ما أطلق عليه بـ “الثورات المضادة” بالعالم العربي، دخلت ليبيا منذ 2014 حربا أهلية، أطلق شرارتها الجنرال المتقاعد حفتر، بعد غياب ملحوظ، بما أسماه “عملية الكرامة” العسكرية في بنغازي والشرق الليبي، قبل أن تتسع إلى الاستيلاء على مطار العاصمة الليبية طرابلس ثم الهجوم على مبنى البرلمان بها. وفي 2015 تم الاتفاق السياسي الليبي بين أطراف الصراع في هذا البلد المغاربي، انتهى بالتوقيع عليه تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات المغربية، والتي أصبح يحمل اسمها. ومن نتائج اتفاق الصخيرات تأسيس حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج التي نالت اعتراف المجتمع الدولي بها، كما نص الاتفاق على باقي مؤسسات الدولة الليبية المدنية والعسكرية.
تمرد حفتر..وطموحاته
كل هذه المنجزات الدولية لم يعترف بها حفتر، وإنما عمل على تقوية تموقعه في شرق ليبيا بانتزاع تغييرات قانونية لصالحه بدعم من خارج. وهكذا وكما صرح به غريمه عقيلة صالح رئيس مجلس النواب في طبرق فإن “البرلمان ألغى “قانون العزل السياسي” الذي كان ينطبق على حفتر، كما عدل قانون الجيش واستحدث منصب “القائد العام”، وأصدر قانونا آخر بإعادة حفتر إلى العمل لأنه متقاعد من الجيش”. وكل هذه التعديلات تمت على مقاس حفتر لإضفاء الشرعية على تحركاته الانقلابية.
ففي شتنبر 2016 سيطرت قواته عل منشآت النفط الرئيسية في منطقة “الهلال النفطي”.
وعرفت سنة 2017 إجراء مباحثات بين مختلف الأطراف الليبية سواء في القاهرة أو في تونس، إلا أن الهاجس الذي طبع المحطتين كان هو وضع حفتر على رأس السلطة العسكرية. فمباحثات القاهرة تمت، كما يرى العديد من المراقبين، بجهود عسكرية مصرية مع إقصاء لوزارة الخارجية من الملف. فالإشراف المباشر كان للرئيس المصري وصهره رئيس الأركان، وأملهما كان هو “التأكيد على أن حفتر سيكون في منصب وزير الدفاع على كل ليبيا”. وهذا ما يتعارض مع المادة الثامنة من اتفاق الصخيرات والتي تمنح حكومة الوفاق الوطني سلطة تعيين قائد القوات المسلحة. وهذه النقطة هي نفسها التي أفشلت محادثات تونس. ولعل هذا الحرص على منصب وزير الدفاع هو ما جعل الأطراف الليبية تخشى إعادة تجربة وزير الدفاع المصري في عهد الرئيس المنتخب محمد مرسي، وتكرارها في ليبيا.
قرار السيطرة على طرابلس 2019
وظل هذا الهاجس متحكما في كل تصرفات حفتر وداعميه. فعلى مستوى التصريحات كرر مرات “رفض” و”نهاية” و”إسقاط” اتفاق الصخيرات. وبلغ به الأمر في 4 أبريل 2019 أن أصدر أوامره لقواته بالتحرك نحو الغرب والسيطرة على طرابلس العاصمة الليبية ومقر حكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة انطلاقا من التمسك الداخلي والإقليمي والدولي بالاتفاق المذكور. وبالفعل تمت السيطرة على مدن الساحل الغربي والمواقع القريبة من الحدود التونسية، وتركزت المواجهات بشكل أساسي حول طرابلس. ومنذ بدء الهجوم على طرابلس تكررت الدعوات الأممية والأمريكية والأوروبية إلى وقف فوري للقتال والبدء بمحادثات سلام.
وضع الدول المغاربية سنة 2019
عرفت سنة 2019 حراكا شعبيا في الجزائر مع غياب مؤسسات الدولة وخاصة الرئاسة، وبالتالي كان الانطواء على السياسة الداخلية. ونفس الشيئ تقريبا عاشته تونس التي عرفت انتخابات مبكرة على أثر وفاة الرئيس قايد السبسي. أما المغرب فبقي في حدود دعوات أخلاقية من مثل: “المغرب يتابع بقلق الوضع في ليبيا”، و “الخيار العسكري لن يزيد الوضع إلا تعقيدا”، والتأكيد على أن حل الخلافات الليبية يكمن في وثيقة اتفاق الصخيرات. أما موريطانيا فعرفت، في شخص رئيسها إذاك، ترشيحا أمميا للملف الليبي. فبعد تقديم مسؤولين أفارقة انتقادات لأداء مبعوث الأمم المتحدة في ليبيا، غسان سلامة، فإن الدول الثلاث الإفريقية ذات العضوية الدورية في مجلس الأمن(جنوب أفريقيا، وساحل العاج، وغينيا الاستوائية)، طالبوا بتعيين ولد عبد العزيز مبعوثا أفريقيا للأمم المتحدة مكلفا بالأزمة الليبية، معللين بكون الاتحاد الأفريقي يتوفر على خبرة فعالة في مجال الوساطة. لكن الطلب ووجه برفض الدول الغربية، واحتفظوا بالمبعوث اللبناني غسان سلامة.
المعاهدتان التركية-الليبية
أمام هذا الوضع المتردي وقوات حفتر الانقلابية على أبواب العاصمة طرابلس، وتقاعس المنتظم الدولي في اتخاذ قرارات حازمة، جاءت المفاجأة من تركيا التي وقع فيها فايز السراج اتفاقيتين في 27 نونبر 2019، الأولى تتعلق بالتعاون الأمني والعسكري، والثانية تهم تحديد مناطق النفوذ البحرية التركية الليبية. ومباشرة نشطت الدعوات إلى تهدئة الوضع في ليبيا، وأهمها مباحثات موسكو تحت الرعاية التركية-الروسية، ومؤتر برلين بعد أن كان يتم تأجيله.
رفض التوقيع في موسكو وبرلين
استضافت موسكو ، بعد تنسيق بينها وبين أنقرة، مباحثات بين رئيس حكومة الوفاق فايز السراج وحفتر يوم 13 يناير 2020 أثمرت تحديد شروط الهدنة في ليبيا تحت رعاية كل من روسيا وتركيا. ففي الوقت الذي وقع عليها السراج، غادر حفتر دون توقيع على الوثيقة، مما يفسر عدم استقلالية هذا الأخير في قراراته التي شارك في بنائها، ثم اعتماده على منطق القوة بحكم تقدمه عسكريا في الميدان.
وفي أقل من أسبوع أي في 19 يناير ينعقد مؤتمر برلين، حضرته الجزائر وحدها من بين الدول المغاربية وكأن الأوروبيين، بصفتهم داعين إلى المؤتمر، يكرسون حالة الانقسام التي توجد عليها دول الاتحاد المغاربي. والمؤتمر الذي خرج ب 55 بندا، يؤكد في البند 25 الواقع تحت عنوان “العودة إلى العملية السياسية”، على أن المشاركين يدعمون ” الاتفاق السياسي الليبي كإطار عملي للحل السياسي في ليبيا”. أما البند 26 فيتضمن ما يفيد أن “الفترة الانتقالية” مستمرة تحت رعاية البعثة الأممية في ليبيا، تمهيدا لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. وبما أن هذه البنود بالخصوص تسحب من حفتر “شرعية الأمر الواقع” التي يعمل على فرضها، وآخرها إغلاقه لموانئ النفط عشية المؤتمر، فإنه هنا أيضا رفض التوقيع على الاتفاق الذي خرج به مؤتمر برلين.
استمرار الهجمات على طرابلس واستقالة المبعوث الأممي
وعرفت عملية تنزيل موتمر برلين، في ظل هدنة هشة، انتهاكات متكررة كادت تعصف بالهدنة أوكما عبر غسان سلامة في جنيف أواخر فبراير أن “الهدنة أوشكت على الانهيار” خصوصا بعد سقوط صاروخ على المطار الوحيد الذي يعمل في طرابلس، وكذلك تعرض مناطق عدة، بما فيها الأحياء السكنية، من العاصمة ومحيطها إلى ضربات نفذتها قوات حفتر، ماجعل المبعوث الأممي يهاجم من قال إنهم يحاولون تقويض المحادثات بين الطرفين مطالبا بمزيد من الدعم الدولي. ولم تمض إلا أيام ليعلن في 2مارس 2020 استقالته من مهمته كمبعوث للأمم المتحدة في ليبيا.
حكومة الوفاق و”عاصفة السلام”
ردا على هذه الاعتداءات، وبعد استكمال الشروط المتعلقة أساسا بالعتاد الحربي من مصادره التركية بناء على المعاهدة العسكرية، والذي كانت تعاني منه حكومة الوفاق بالمقارنة مع الدعم السخي من الأسلحة المتطورة الذي كانت تتلقاه قوات حفتر، أعلنت هذه الحكومة ما أطلقت عليه “عاصفة السلام” في 25 مارس. وكانت النتيجة حاسمة وسريعة حيث استطاعت حكومة الوفاق من تحرير العاصمة ومحيطها ومجموعة من المدن الرئيسية البعيدة والمطارات، لتقف على مشارف مدينة سيرت التي تعتبر عماد الاقتصاد الليبي وشريانه الرئيس، حيث تحتوي على أكبر مخزون غاز، وهي البوابة إلى الهلال النفطي الذي يحوي أهم أربعة موانئ نفطية.
“إيريني” الأوروبية أو محاولة منع السلاح التركي
أثناء عملية “عاصفة السلام”، وبعد التأكد من فعاليتها وقدرتها على قلب الموازين، ظهرت مجموعة من ردود الأفعال الدولية والداخلية.
فالاتحاد الأوروبي أعلن إطلاق عملية “إيريني” البحرية بدعوى فرض حظر على دخول الأسلحة إلى ليبيا، إلا أنه اتضح في الأخير أن المقصود منها هو منع الأسلحة التركية لصالح حكومة الوفاق، كما جاء على لسان مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، حينما قال بأن عمليات “الحظر الوحيدة التي يقومون بها (الأوروبيون) تستهدف معدات عسكرية تركية”، مضيفا أنه كان عليهم تعميمها على الأطراف الداعمة لحفتر.
مبادرات بطعم الهزيمة وتناسل “التفويضات”
كانت المبادرة الأولى لرئيس مجلس النواب الليبي بطبرق عقيلة صالح، حين أعلن عن خارطة طريق لإنهاء الأزمة في ليبيا في 23 أبريل 2020، ليخرج حفتر في نفس اليوم، وبشكل معاكس، بخطاب يدعو فيه “تفويضه” حاكما على ليبيا.
دعوى”تفويض الشعب الليبي” حفتر “حاكما عاما على ليبيا”
وبالفعل لم ينتظر طويلا حتى أعلن في 27 أبريل 2020 ومن جديد إسقاط الاتفاق السياسي واصفا إياه بـ”المشبوه والمدمر”، ثم وسيرًا على أثر سلفه المصري أعلن قبول ما أسماه ” تفويض الشعب الليبي للجيش بقيادة المرحلة”. فيكون بهذا قد أعطى لنفسه ما لم تُتِحْه له المباحثات بالخارج، وأيضا ما لم يُتحْه له الداخل بما فيه المقربون منه، خصوصا عندما ناقض تصريحُه مبادرةَ رئيس مجلس النواب الليبي بطبرق عقيلة صالح، فلم يتردد هذا الأخير أن رفض تنصيب حفتر نفسَه حاكما على ليبيا.
صراع الخصمين، حفتر وعقيلة، نُقل إلى القاهرة، في لقاء جمعهما في 6 يونيو، لتُصهر كل الخلافات في فرن المخابرات، خصوصا بعد الهزائم المتلاحقة التي عاشوها جميعا، لينبثق عنه ما سمي “إعلان القاهرة” الذي تضمن “مبادرة ليبية-ليبية كأساس لحل الأزمة في ليبيا في إطار قرارات الأمم المتحدة والجهود السابقة في باريس وروما وأبوظبي وبرلين”،حسب تصريح الرئيس المصري، مُسقِطا من حسابه “اتفاق الصخيرات” المعترف به دوليا، و”مباحثات موسكو” التي رعتها تركيا وروسيا. ومن هنا لم يكتب له القبول، واتضح للعيان أن مواقف حفتر من الاتفاق السياسي هي نفسها المواقف الرسمية لمصر.
“تفويض القبائل الليبية” الرئيسَ المصري
في مبادرة أثارت جدلا كبيرا، حين تعاملت مع القضية الليبية من منظور قبلي، حيث حُشِر للرئيس المصري ما أطلق عليهم “مشايخ وأعيان القبائل الليبية، لبحث تطورات الأزمة هناك”، وكأن ليبيا تحكم بنظام قبلي. وانعقد اللقاء تحت شعار “مصر وليبيا .. شعب واحد ومصير واحد”. ونقلت وسائل الإعلام أن السيسي قال في هذا اللقاء أن “الجيش المصري لن يتدخل في ليبيا إلا بطلب من القبائل الليبية”. وواضح أن هذا هو ما اصطلح عليه بـ”طلب تفويض القبائل” كذريعة كافية للتدخل العسكري. والمفارقة هنا هي أن القبائل المعنية تنتسب إلى بلد عضو في الأمم المتحدة، والتفويض لرئيس دولة أخرى، ولعل هذا يعتبر إبداعا في قانون العلاقات الدولية. وبالفعل بلغ إعلاميا المبتغى حيث “أعرب مشايخ وأعيان القبائل الليبية عن كامل تفويضهم للرئيس” أو هكذا صرح الناطق باسم الرئاسة، ليصبح بهذا التفويض صاحب “أعلى سلطة في ليبيا”.
التحديات المطروحة على الاتحاد المغاربي
أمام هذه الذريعة الطارئة في القانون الدولي، التي انتقلت تاريخيا من الداخل المصري أيام ما سمي بـ”جمعة التفويض” سنة 2013، إلى خارج حدود مصر في بلد ليبيا المجاور هذه المرة في 2020، ألا يتطلب هذا الأمر الجلل من الدول المغاربية موقفا موحدا باسم الاتحاد المغاربي يصب في المصلحة الشرعية لدولة عضو فيه ؟ موقفا يعفي من المبادرات الفردية رغم أهميتها، موقفا مدعوما بإقليم بكامله يدفع في حل الأزمة الراهنة، ويستبق كل عدوى محتملة لـ”فيروس التفويض”. ونتساءل من باب التذكير فقط:
– ألا يَعتَبِرُ مسؤولونا من الاتحاد الأوروبي الذي يحشر أنفه في كل المؤتمرات الخاصة بالأزمة الليبية رغم حضور دول من أعضائه، ثم قيامه منفردا بعملية “إيريني” التي تَدعم بشكل غير معلن، كما بينّا أعلاه، امتدادَ المخطط التفويضي؟
– ألا يَعتبِرون بالجرأة والحضور الوازن للاتحاد الإفريقي ومبادراته، سواء في الموضوع الليبي أو غيره على الرغم من الحصار المضروب عليه؛ أم أن التشبه يبقى حصريا بالتي كانت تسمى في حياتها “جامعة الدول العربية” ؟
– أيَرضَون أن يبقوا في حالة انتظارِ من يَخطُب وُدَّهُم على انفراد، ولا يَقوَوْن على المبادرة، وهم كلّهم، خاصة بعد التحولات الإيجابية التي وقعت في كل من الجزائر وتونس مؤخرا، كلُهم يرددون تصريحات متشابهة حول الموضوع وعلى رأسها تشجيع الحل السياسي على حساب العسكري، ويرفضون المساس بالشرعية الدولية، كما يرفضون تقسيم ليبيا، أو تسليح قبائلها. فما المانع من أن يُجمِعوا أمْرَهُم؟
“دبلوماسية الباب الخلفي” وإمكانية تجاوز جمود الاتحاد المغاربي
سيقول قائل، التحدي الأكبر يتعلق أساسا بالعلاقات المقطوعة أو المتعثرة بين دول الاتحاد المغاربي. نعم، إنما نقول في هذا الإطار، إن العمل الدبلوماسي يَرتكز في عالمِ اليوم على ما يُسمى بـ”دبلوماسية المصالح”، والوصول إليها يكون إما باتباع قنوات الدبلوماسية الرسمية، وإما ما يُصطلح عليه بـ”دبلوماسية الباب الخلفي”.
فإذا كانت الدبلوماسية هي لغة الحوارِ وأداةُ التواصل المباشر بين الدول، فإن المصالح تشكّل محور العلاقات بينها. لكن الدبلوماسية الرسمية، والتحركات السياسية لوزارة الخارجية، تبدو أحيانا غير قادرة على جلب تلك المصالح سواء قَرُب المدى أو بَعُد، ما يَنتج عنه تفويتٌ للعديد من الفرص التي تكون أحيانا غير قابلة للتعويض، أو يَنتج عنه تَصلبٌ في العلاقات الثنائية، فتأتي دولة أخرى تُبدِع نماذج خاصة بها في دبلوماسية المصالح فتستغل هذا الوضع المتصلب. لذا فإن “دبلوماسية الباب الخلفي” هي دخول لنفس القاعة وبنفس الأهداف والمصالح لكن من غير الباب الرسمي، ويُقال فيها ما لا يستطيع المسؤولون على العلاقات قولَه، ويجري البحث خلالها عن سبل جديدة لفتح الانسداد في العلاقات الرسمية المباشرة. وهذا الأسلوب تنهجه العديد من الدول وتنجح فيه.
ولنضرب مثلا عمليا لتطبيق هذا النوع من الدبلوماسية نأخذه من موضوعنا الذي نعالجه، وهو العلاقات بين تركيا ومصر.
فالقاهرة وأنقرة حققتا رقما قياسيا في حجم التجارة البينية عام 2018، وذلك رغم التوترات السياسية بينهما، حيث تجمعهما اتفاقية تجارة حرة دخلت حيز التنفيذ منذ مارس 2007، ومن المفترض أن يعاد تقييم الاتفاقية خلال عام 2020، حيث تشير التوقعات إلى عدم وجود أية نوايا لإلغائها. وتُظهر التقارير الرسمية أنه في سنة 2018 ارتفع حجم الصادرات إلى تركيا بنسبة 9.7 في المائة ، وبالمقابل ارتفع حجم واردات مصر من تركيا بنسبة 29 في المائة. وهذا راجع لكون الدولتين استطاعتا عزل خلافاتهما السياسية الخاضعة للتقلبات، عن الاتفاقات والعلاقات التجارية وحركية رجال الأعمال التي تتطلب نوعا من الاستقرار. والأصل في هذا كله مصالح تفرض نفسها، كما أن تدبيرَها يفرض دبلوماسية الباب الخلفي:
– بالنسبة لتركيا فإنها ترى في مصر بوابتها لإفريقيا؛ وأن قناة السويس شريان حيوي لتصدير المنتجات التركية؛ كما أن السوق المصرية، التي تضم 110 مليون مستهلك، مهمة جدا لتصريف البضائع التركية.
– وبالنسبة لمصر فإن سوق تركيا ضخم، ويصل عدد سكانها إلى 85 مليون نسمة، وهو ما لا يمكن تعويضه بالسوق الخليجي الذي يضم أقل من 35 مليونا؛ وأن الاقتصاد التركي صناعي يقدم ما يُشكّل حاجة حقيقة لمصر، وهو ما تعجز عنه السوق الخليجية؛ ثم إدراك مصر أهمية الموانئ التركية في استقطاب الموارد الأوروبية وتصديرها، وإلا اضطرت إلى استيراد السلع الأوروبية والتركية نفسها من أسواق أخرى كاليونان وإيطاليا ما يرفع قيمة الجمارك والنقل.
فإذا أثبت الواقع بالملموس أن مشكلة الدول المغاربية هي أنها لا تُجيدُ لعبة المصالح، حتى لا نعيد مقولة أن استقلالاتها أصلا كانت، ولا تزال، غير كافية لامتلاك سلطةِ مثلِ هذه القرارات، وأنها لم تبدع، لا في دبلوماسيتها الرسمية، ولا في شكل من أشكال دبلوماسية الباب الخلفي لمصلحة تكامل اقتصاداتها واندماج شعوبها، فلا أقل من أن ترُدّ بشكل جماعي الخطر الدّاهِم على دولة عضوٍ، والقابل للانتقال بالأسلوب المكشوف نفسه إلى باقي الأعضاء حالا أو استقبالا.
وتقديرا منا لصعوبة المرحلة، فإن ما توفر من مؤشراتٍ قويةٍ يعتبر كافيا للدالة على وجود نوايا للعبث بالساحة المغاربية، فما يقع في تونس ضد المؤسسات الدستورية، والتسويق له على أنه تحرك شعبي، هو باعتراف رسمي جزء من مخطط خارجي وليس حدثا معزولا. أما الجزائر فقد سبق لحفتر أثناء سطوته سنة 2018، أن هددها بشكل صريح متوعّدا إياها بالدخول معها في حرب، ما دفع أحد المحللين العسكريين (هسبريس:10- شتنبر2018) من توقع تمدد الخطر بقوله “الهجوم على العاصمة الليبية قد يغير من موازين القوى ويدفع بالتالي الجنرال (حفتر) إلى خارج اللعبة الدائرة في الأراضي اللبيبة”. أو بمعنى آخر، القضاء على الشرعية الدولية في ليبيا يفسح المجال أمام “شرعية التفويض” في الدول المغاربية الأقرب فالأقرب.
فمن يتشرف بحيازة قصب السبق لولوج الباب الخلفي، في زمن انسداد الباب الرسمي للدبلوماسية المغاربية، وينضج الشروط لموقف جماعي مغاربي يدعم الشرعية الدولية بليبيا ويدفع خطورة ” فيروس التفويض” عن كل دول الاتحاد قبل فوات الأوان ؟
- ملحوظة: الأحداث والتصريحات متواترة على المواقع الإلكترونية، فلم نر داعيا لإثقال المقال بروابطها.