تحول نوعي .. أبعاد ودلالات سحب أستراليا اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل
إعداد : بسمة عبدالرحمن عبدالحميد شعبان – باحثة في العلوم السياسية
- المركز الديمقراطي العربي
قررت الحكومة الأسترالية يوم الثُلاثاء الماضي 18 أكتوبر 2022م بسحب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأكدت على ضرورة حل القضية من خلال المفاوضات السلمية بينهما، وبذلك تراجعت عن السياسة الأسترالية الجديدة التي اتخذتها الوزارة السابقة قبل أربع سنوات، فأستراليا ثاني دولة اعترفت بالقدس عاصمة إسرائيل منذُ إعلان ترامب بذلك في عام 2018م.
ومثّل هذا القرار المفاجئ ضربة قوية لإسرائيل خاصةً مع حذف الإشارة إلى العاصمة الإسرائيلية من موقع وزارة الشئون الداخلية والتجارية الأسترالية، وجاءت في وقتٍ عصيبٍ تمر به إسرائيل والولايات المتحدة كذلك في ظل الحرب الأوكرانية وما تبعته من أزمة الطاقة، خاصةً مع علاقة أستراليا الوطيدة بالولايات المتحدة والاتفاقيات الضخمة بينهما، ويتضح لنا من ذلك بضرورة وجود أسباب خفية وراء هذا القرار، ولِما له من تداعيات على العلاقات الأسترالية الخارجية فيما بعد بالولايات المتحدة وإسرائيل وأخيرًا في محاولاتها لكسب تأييد الدول المحيطة.
سياسات متناقضة:
اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة إسرائيل في مايو 2018م ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، تبعه غضب الكثير من الدول باعتباره مخالفًا لميثاق الأمم المتحدة الذي يمنح القدس وضعًا قانونيًا خاصًا تحت وصايا الأمم المتحدة، ولكن في وضع متناقض من السياسة الأسترالية لتكون ثاني دولة مُعترفة بالقدس عاصمة إسرائيل بعد عدة أشهر في 15 ديسمبر 2018م، لتصبح المرة الأولى في انحياز أستراليا لإسرائيل، وبالتأكيد للقرار أهدافه الخاصة سواء داخليًا أو خارجيًا.
جاء الهدف وراء القرار مدفوعًا بالرغبة في كسب تأييد الناخبين اليهود للحكومة الجديدة آنذاك، وتحقيق الفوز في الانتخابات العامة وبالفعل فاز سكوت موريسون برئاسة الوزراء، وأيضًا لاختلاف توجه حزب الحكومة التي تتسم باليمين المتطرف وأيديولوجيته الليبرالية المتشددة لكونه حزبًا محافظًا، لذا سعى للتقرب من الولايات المتحدة منذُ بداية توليه الحكم، ومن الواضح أن السياسة الخارجية الأسترالية كانت في تلك الفترة بمثابة انعكاسًا للسياسة الأمريكية، فتبعته مباشرة بالاعتراف بالقدس، وأيضًا في دعمها للاتفاق النووي الإيراني بشدة قبل انسحاب ترامب منه.
ولقي ذلك انتقادًا شديدًا من الشعب الأسترالي نتيجة لانحيازه لإسرائيل والمعارضة الأسترالية اعتبارًا بأنه جزءًا من سياسة خارجية خطيرة، حيثُ نتج عنه توتر العلاقات مع الدول المجاورة كما مع إندونيسيا وماليزيا التي ترتبط معهما بعلاقات اقتصادية قوية، وتدهورت العلاقات مع دول الخليج الذي يُعد تهديدًا للمصالح الاقتصادية والدبلوماسية لهما، فمن المؤكد بأن القرار لم يكن في صالح أستراليا وغير مدروس بشكل صحيح، فما هو إلا لاعتبارات ظرفية وانتخابية وأيضًا لتوجهه المشابه للسياسة الأمريكية في حين يخالفه في الاستراتيجية ومصالح كل منهما عن بعض في ظل وجود بعض الاختلالات في الاستقرار السياسي الأسترالي، فكان لا بد من الحفاظ على السياسة الخارجية والداخلية الموحدة لتقليل من الانقلابات السياسية في الحكم التي تعاني منها أستراليا.
صدمات متتالية:
وبعد مرور ما يَقرُب من عَقدٍ على تولي الحزب الائتلافي المحافظ الحكومة الأسترالية، خسر موريسون الانتخابات وانتهى بعودة حزب العمال اليساري بزعامة أنتوني ألبانيزي في مايو 2022م، ولطبيعته اليسارية كان من أشد المعارضين لقرار الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل، وصرّح بذلك منذ بداية اعتراف موريسون في عام 2018، وتعاطفه مع القضية الفلسطينية والنظر لأفعال إسرائيل بأنه غير مقبول، ويجب الوصول لتسوية سلمية عن قريب بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
أثار هذا القرار بالتأكيد غضب إسرائيل والخوف من عدم الاعتراف بها كدولة في الخطوة القادمة، وهذا التصرف من أستراليا أعادت القضية الفلسطينية للرأي العام العالمي وإعادة النظر في الاعتراف بإسرائيل والقدس عاصمةً لها، وهذا ما يُخيف إسرائيل خاصةً أن ما حدث في أستراليا يُماثل ما يحدث في البرازيل الآن وما تثيره من قلق حتى حسم نتيجة الانتخابات، وأيضًا إشارة ليز تراس رئيسة وزراء بريطانيا قبل استقالتها بنقل السفارة من إسرائيل إلى القدس.
بدا التفكير في القضية الفلسطينية بشكل مختلف الآن في بعض الدول ناتج عن تراجع بعض القوى الكبرى على الساحة الدولية، فضعف الهيمنة الأمريكية الداعمة لإسرائيل – ويظهر ذلك في دعوة الولايات المتحدة بتحسين العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية -، ومع الصعود الروسي شجعت بعض الدول لاتخاذ القرارات بدون الخوف من تعرضها لضغوط وعقوبات أمريكية التي ظلت طوال فتراتها تدعم الوجود الإسرائيلي في المنطقة تطبيقًا لمشروعها الشرق الأوسط الكبير، والآن مع الحرب الأوكرانية وضعف الإدارات الأمريكية يصعب تحقيق خطط الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة خاصةً إذا قلّت بالفعل الدعم الدولي لإسرائيل، ويُعد قرار أستراليا دليلًا واضحًا على ذلك.
علاقاتها بشكلٍ مُغاير:
سيتبع قرار إلغاء اعتراف أستراليا بالقدس الكثير من التغيرات في علاقات أستراليا بالدول ويُشكل علاقات خارجية جديدة، فبعد أن كانت علاقات أستراليا طوال عهد حزب المحافظ يحوز بحوزة الولايات المتحدة الأمريكية في جميع قراراتها ستكون سياساتها أكثر اعتدالًا وتتخذ قرارات وفقًا لمصلحتها في المنطقة، ففي عهد موريسون ألغت الحكومة الأسترالية اتفاقية الغواصات مع فرنسا مما خسّرت فرنسا مبلغًا يقدر 35 مليار يورو وزاد التوتر بينهم بشكل ملحوظ في ذلك الوقت، وذلك بضغوط من الولايات المتحدة لإتمام اتفاقية جديدة «اتفاقية أوكوس» على صفقة الغواصات النووية العام الماضي، وما يوضح تغير شكل علاقات أستراليا بمحاولتها لإعادة الاتفاقية مع فرنسا وتسوية تلك الأزمة.
أعادت النظر في علاقاتها مع الدول الآسيوية أيضًا، بعد أن كانت علاقاتها مقتصرة على الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وإهمالها لجاراتها الآسيوية، واتضح ذلك في زياراتها المتعددة منذ توليه الحكم للجزر المحيطة بها؛ وذلك بسبب التخوف من إستراتيجية الصين في المنطقة والقلق التي تحمله في منطقة بحر الصين الجنوبي وخططها في المحيطة الهادي، حيثُ أقامت بعض الاتفاقيات مع الجزر المحيطة بأستراليا مما يمثل تهديدًا لها، ومن جهة أخرى رأت أستراليا أن علاقاتها بالدول الآسيوية يُمثل فرصًا اقتصادية لها، فأقامت عدة زيارات مع إندونيسيا وسنغافورة واليابان وماليزيا، وبذلك اتجهت أستراليا لإيجاد مصالح مشتركة مع الدول الآسيوية لأول مرة منذ 9 سنوات، ومن المؤكد بأن تلك العلاقات سيكون خطوة جيدة لأستراليا اقتصاديًا وأمنيًا لحماية نفسها من العدو الصيني المتواجد على أطراف دولها وجزرها.
من المؤكد كل ذلك سيخلق توترًا على العلاقات الأمريكية الأسترالية بدايةً من وجود حزب اليساري في الحكم وتناقض توجهاته مع الولايات المتحدة، وقراراتها المغايرة لسياساتها وتحقيقها لمصالحها الإقليمية، ولكن بالرغم من ذلك فمصالح أستراليا والولايات المتحدة على الساحة الدولية واحدة، تقابلهم تهديدًا من أعداء تحاوطهم معًا من الصين وروسيا وسعيهم للتوصل لاتفاقيات أمنية في مواجهة هذه القوى، وتهاون الولايات المتحدة في قرار عدم اعتراف بالقدس لانشغالها في صراعاتها مع روسيا والصين، قد يشجع بعض الدول لاتخاذ القرار مرة أخرى ويضعف دعم الولايات المتحدة لإسرائيل مؤقتًا، وعند ضعف الدعم الأمريكي لها بالتالي سيضعف دور الإسرائيلي إقليميًا.
ختامًا، فالقرار بسحب الاعتراف بإسرائيل سيخلق نوعًا من الاستقرار داخليًا بزيادة الثقة في الحكومة، لا سيما كان الشعب رافضًا لمعظم سياسات الحزب السابق التي تتسم بالجمود والاتجاه إلى غير مصلحة الدولة، والعلاقات الجديدة لأستراليا سيُمثل لها فرصًا كبيرة وذلك لاحتياج أستراليا لتقوية نفوذها في المنطقة وسط التهديدات التي تحاوطها، وفي ظل الأوضاع التي يمر بها العالم مع أزمة الطاقة، فالولايات المتحدة لن تستطيع فقد مثل هذه القوة، فأستراليا من أكبر الدول في إنتاج الغاز والطاقة، وتُعد من أكثر الدول داعمين لأوكرانية بالأسلحة في مواجهة روسيا، فرغم اختلاف توجهات كلٍ منهما، ستطغى المصالح.